التوكل
هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها اليه، والاعراض عمّا سواه. وباعثه قوة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثره بالمخاوف والأوهام.
والتوكل هو: من دلائل الايمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزة نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكل على الخالق في كسب المنافع ودَرء المضار.
وقد تواترت الآيات والآثار في مدحه والتشويق اليه:
قال تعالى: «ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه» (الطلاق: 3).
وقال: «إن اللّه يحب المتوكلين» (آل عمران: 159).
وقال: «قل لن يصيبنا الا ما كتب اللّه، هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (التوبة: 51).
وقال تعالى: «إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (آل عمران: 160).
وقال الصادق عليه السلام: «إنّ الغنى والعز يجولان، فاذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا»(1).
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
{ 169 }
وقال (ع): «أوحى اللّه الى داود (ع): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثم تكيده السماوات والأرض، ومن فيهن، الا جعلت له المخرج من بينهن.
وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، الا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأيّ واد هلك»(1).
وقال عليه السلام: «من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً:
من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة.
ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة.
ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية.
ثم قال: أتلوت كتاب اللّه تعالى؟: ( ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه) (الطلاق: 3).
وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (ابراهيم: 7)، وقال: (أدعوني أستجب لكم) (غافر: 60). »(2).
وقال أمير المؤمنين في وصيته للحسن (ع):
«وألجئ نفسك في الأمور كلها، الى الهك، فإنك تلجئها الى كهف حريز، ومانع عزيز»(3).
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
_____________________
(1)، (2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(3) نهج البلاغة.
{ 170 }
«كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق، ان اللّه تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، ان اللّه تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة:
أما أول ذلك فإنه كان في رحم امّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حر ولا برد.
ثم أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويربيه وينعشه، من غير حول به ولا قوة.
ثم فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظن ويقين بالخلف من اللّه تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يابني»(1).
حقيقة التوكل:
ليس معنى التوكل اغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأن يقف المرء ازاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.
_____________________
(1) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق (ره).
{ 171 }
سليب الارادة والعزم. وإنما التوكل هو: الثقة باللّه عز وجل، والركون اليه، والتوكل عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبب الأسباب، وأنه وحده المُصرّف لامور العباد، والقادر على انجاح غاياتهم ومآربهم.
ولا ينافي ذلك تذرع الانسان بالأسباب الطبيعية، والوسائل الظاهرية لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزود للسفر، والتسلح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرز من الأخطار والمضار، فهذه كلها أسباب ضرورية لحماية الانسان، وانجاز مقاصده، وقد أبى اللّه عز وجل أن تجري الأمور الا بأسبابها.
بيد أنه يجب أن تكون الثقة به تعالى، والتوكل عليه، في انجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وآية ذلك أنّ أعرابياً أهمل عَقل بعيره متوكلاً على اللّه في حفظه، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله، له: «إعقل وتوكل».
درجات التوكل:
يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم السباقون والمجلّون في مجالات التوكل، المنقطعون الى اللّه تعالى، والمعرضون عمن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فلكهم من الأولياء.
{ 172 }
ومن أروع صور التوكل وأسماه، ما روي عن ابراهيم عليه السلام:
«أنه لما ألقي في النار، تلقاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أمّا اليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أن أخمد النار فانّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي»(1).
ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف احساسه الروحي، وهزال ايمانه. ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكل.
محاسن التوكل:
الانسان في هذه الحياة، عرضة للنوائب، وهدف للمشاكل والأزمات، لا ينفك عن جلادها ومقارعتها، ينتصر عليها تارة وتصرعه أخرى، وكثيراً ما ترديه لقاً، مهيض الجناح، كسير القلب.
فهو منها في قلق مضني، وفزع رهيب، يخشى الاخفاق، ويخاف الفقر، ويرهب المرض، ويعاني ألوان المخاوف المهددة لأمنه ورخائه.
ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أن تخفف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضارية، وتوفير وسائل التسلية والترفيه، فقد عجزت عن تزويد النفوس
_____________________
(1) سفينة البحار ج 2 ص 638 عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.
{ 173 }
بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيين، فلا يزال القلق والخوف مخيماً على النفوس، آخذاً بخناقها، مما ضاعف الأمراض النفسية، واحداث الجنون والانتحار في أرقى الممالك المتحضرة.
ولكن الشريعة الاسلامية استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخُلُقي الرفيع - أن تخفف قلق النفوس ومخاوفها، وتمدّها بطاقات روحية ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة والاطمئنان، بالتوكل على اللّه، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل صنعه، وجزيل آلائه، وأنّه له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير. وبهذا ترتاح النفوس، وتستبدل بالخوف أمناً، وبالقلق دِعَةً ورخاءً.
والتوكل بعد هذا من أهم عوامل عزة النفس، وسمو الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفع المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء الى الخالق، في جلب المنافع، ودرء المضار.
ولعل أجدر الناس بالتوكل أرباب الأقدار والمسؤوليات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدوا منه العزم والتصميم على مجابهة عَنَتِ الناس وإرهاقهم، والمضي قدماً في تحقيق أهدافهم الاصلاحية، متخطين ما يعترضهم من أشواك وعوائق.
كيف تكسب التوكل:
1 - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب
{ 174 }
الطمأنينة والرخاء.
ومن طريق ما نظم في التوكل قول الحسين عليه السلام:
إذا ما عضك الدهر فلا تجنح الى خلق*** ولا تسأل سوى اللّه تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت من الغرب الى الشرق*** لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي
ومما نسب لأمير المؤمنين عليه السلام:
رضيت بما قسم اللّه لي*** وفوضت أمري الى خالقي
كما أحسن اللّه فيما مضى*** كذلك يحسن فيما بقي
وقال بعض الأعلام:
كن عن همومك معرضاً*** وكل الأمور الى القضا
فلرب أمر مسخط*** لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق*** وربما ضاق الفضا
اللّه عوّدك الجميل*** فقس على ما قد مضى
* * *
2 - تقوية الايمان باللّه عز وجل، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنه هو مصدر الخير، ومسبب الاسباب، وهو على كل شيء قدير.
3 - التنبه الى جميل صنع اللّه تعالى، وسمو عنايته بالانسان، في جميع أطواره وشؤونه، من لدن كان جنيناً حتى آخر الحياة، وأن من توكل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.
4 - الاعتبار بتطور ظروف الحياة، وتداول الايام بين الناس،
{ 175 }
فكم فقير صار غنياً، وغني صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلطاً.
وهكذا يجدر التنبه الى عظمة القدرة الالهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالة على قدرة اللّه عز وجل، وأنه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكل والاعتماد، دون سواه.
وآية حصول التوكل للمرء هي: الرضا بقضاء اللّه تعالى وقَدّره في المسرات والمكاره، دون تضجر واعتراض، وتلك منزلة سامية لا ينالها إلا الأفذاذ المقربون.
هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها اليه، والاعراض عمّا سواه. وباعثه قوة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثره بالمخاوف والأوهام.
والتوكل هو: من دلائل الايمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزة نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكل على الخالق في كسب المنافع ودَرء المضار.
وقد تواترت الآيات والآثار في مدحه والتشويق اليه:
قال تعالى: «ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه» (الطلاق: 3).
وقال: «إن اللّه يحب المتوكلين» (آل عمران: 159).
وقال: «قل لن يصيبنا الا ما كتب اللّه، هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (التوبة: 51).
وقال تعالى: «إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (آل عمران: 160).
وقال الصادق عليه السلام: «إنّ الغنى والعز يجولان، فاذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا»(1).
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
{ 169 }
وقال (ع): «أوحى اللّه الى داود (ع): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثم تكيده السماوات والأرض، ومن فيهن، الا جعلت له المخرج من بينهن.
وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، الا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأيّ واد هلك»(1).
وقال عليه السلام: «من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً:
من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة.
ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة.
ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية.
ثم قال: أتلوت كتاب اللّه تعالى؟: ( ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه) (الطلاق: 3).
وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (ابراهيم: 7)، وقال: (أدعوني أستجب لكم) (غافر: 60). »(2).
وقال أمير المؤمنين في وصيته للحسن (ع):
«وألجئ نفسك في الأمور كلها، الى الهك، فإنك تلجئها الى كهف حريز، ومانع عزيز»(3).
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
_____________________
(1)، (2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(3) نهج البلاغة.
{ 170 }
«كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق، ان اللّه تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، ان اللّه تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة:
أما أول ذلك فإنه كان في رحم امّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حر ولا برد.
ثم أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويربيه وينعشه، من غير حول به ولا قوة.
ثم فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظن ويقين بالخلف من اللّه تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يابني»(1).
حقيقة التوكل:
ليس معنى التوكل اغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأن يقف المرء ازاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.
_____________________
(1) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق (ره).
{ 171 }
سليب الارادة والعزم. وإنما التوكل هو: الثقة باللّه عز وجل، والركون اليه، والتوكل عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبب الأسباب، وأنه وحده المُصرّف لامور العباد، والقادر على انجاح غاياتهم ومآربهم.
ولا ينافي ذلك تذرع الانسان بالأسباب الطبيعية، والوسائل الظاهرية لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزود للسفر، والتسلح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرز من الأخطار والمضار، فهذه كلها أسباب ضرورية لحماية الانسان، وانجاز مقاصده، وقد أبى اللّه عز وجل أن تجري الأمور الا بأسبابها.
بيد أنه يجب أن تكون الثقة به تعالى، والتوكل عليه، في انجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وآية ذلك أنّ أعرابياً أهمل عَقل بعيره متوكلاً على اللّه في حفظه، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله، له: «إعقل وتوكل».
درجات التوكل:
يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم السباقون والمجلّون في مجالات التوكل، المنقطعون الى اللّه تعالى، والمعرضون عمن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فلكهم من الأولياء.
{ 172 }
ومن أروع صور التوكل وأسماه، ما روي عن ابراهيم عليه السلام:
«أنه لما ألقي في النار، تلقاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أمّا اليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أن أخمد النار فانّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي»(1).
ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف احساسه الروحي، وهزال ايمانه. ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكل.
محاسن التوكل:
الانسان في هذه الحياة، عرضة للنوائب، وهدف للمشاكل والأزمات، لا ينفك عن جلادها ومقارعتها، ينتصر عليها تارة وتصرعه أخرى، وكثيراً ما ترديه لقاً، مهيض الجناح، كسير القلب.
فهو منها في قلق مضني، وفزع رهيب، يخشى الاخفاق، ويخاف الفقر، ويرهب المرض، ويعاني ألوان المخاوف المهددة لأمنه ورخائه.
ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أن تخفف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضارية، وتوفير وسائل التسلية والترفيه، فقد عجزت عن تزويد النفوس
_____________________
(1) سفينة البحار ج 2 ص 638 عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.
{ 173 }
بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيين، فلا يزال القلق والخوف مخيماً على النفوس، آخذاً بخناقها، مما ضاعف الأمراض النفسية، واحداث الجنون والانتحار في أرقى الممالك المتحضرة.
ولكن الشريعة الاسلامية استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخُلُقي الرفيع - أن تخفف قلق النفوس ومخاوفها، وتمدّها بطاقات روحية ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة والاطمئنان، بالتوكل على اللّه، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل صنعه، وجزيل آلائه، وأنّه له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير. وبهذا ترتاح النفوس، وتستبدل بالخوف أمناً، وبالقلق دِعَةً ورخاءً.
والتوكل بعد هذا من أهم عوامل عزة النفس، وسمو الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفع المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء الى الخالق، في جلب المنافع، ودرء المضار.
ولعل أجدر الناس بالتوكل أرباب الأقدار والمسؤوليات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدوا منه العزم والتصميم على مجابهة عَنَتِ الناس وإرهاقهم، والمضي قدماً في تحقيق أهدافهم الاصلاحية، متخطين ما يعترضهم من أشواك وعوائق.
كيف تكسب التوكل:
1 - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب
{ 174 }
الطمأنينة والرخاء.
ومن طريق ما نظم في التوكل قول الحسين عليه السلام:
إذا ما عضك الدهر فلا تجنح الى خلق*** ولا تسأل سوى اللّه تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت من الغرب الى الشرق*** لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي
ومما نسب لأمير المؤمنين عليه السلام:
رضيت بما قسم اللّه لي*** وفوضت أمري الى خالقي
كما أحسن اللّه فيما مضى*** كذلك يحسن فيما بقي
وقال بعض الأعلام:
كن عن همومك معرضاً*** وكل الأمور الى القضا
فلرب أمر مسخط*** لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق*** وربما ضاق الفضا
اللّه عوّدك الجميل*** فقس على ما قد مضى
* * *
2 - تقوية الايمان باللّه عز وجل، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنه هو مصدر الخير، ومسبب الاسباب، وهو على كل شيء قدير.
3 - التنبه الى جميل صنع اللّه تعالى، وسمو عنايته بالانسان، في جميع أطواره وشؤونه، من لدن كان جنيناً حتى آخر الحياة، وأن من توكل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.
4 - الاعتبار بتطور ظروف الحياة، وتداول الايام بين الناس،
{ 175 }
فكم فقير صار غنياً، وغني صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلطاً.
وهكذا يجدر التنبه الى عظمة القدرة الالهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالة على قدرة اللّه عز وجل، وأنه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكل والاعتماد، دون سواه.
وآية حصول التوكل للمرء هي: الرضا بقضاء اللّه تعالى وقَدّره في المسرات والمكاره، دون تضجر واعتراض، وتلك منزلة سامية لا ينالها إلا الأفذاذ المقربون.