العمل الصالح
لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت، وجلالة العمر، وأنه أعز ذخائر الحياة وأنفسها.
وحيث كان الوقت كذلك، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة من الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي، الدنيوي والأخروي، كما قال سيد المرسلين صلى اللّه عليه وآله: «ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم»(1).
فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.
_____________________
(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع).
{ 273 }
وحيث كان الانسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه الى كسب المعاش، ونيل المتع واللذائذ المادية، والتهالك عليها، مما يصرفه ويلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوقة الى الاهتمام بالآخرة، والتزود لها من العمل الصالح.
قال تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة: 7 - 8).
وقال تعالى: «من عمل صالحاً من ذكر أو انثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل: 97).
وقال تعالي: «ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة، يُرزقون فيها بغير حساب» (غافر: 40).
وقال تعالى: «من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم الى ربّكم ترجعون» (الجاثية: 15).
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا أبا ذر، إنّك في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع»(1).
وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقلت: يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم
_____________________
(1) الوافي في موعظة رسول اللّه (ص) لأبي ذر.
{ 273 }
نعمّر في البرّية.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا قيس إنّ مع العز ذُلاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً. وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش الا منه، وهو فعلك»(1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن العبد اذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت الى ماله، فيقول: واللّه إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.
قال: فيلتفت الى ولده فيقول: واللّه إني كنت لكم محباً، وإني كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم؟ فيقولون: نؤديك الى حفرتك فنواريك فيها
قال: فيلتفت الى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً، وإنك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم
_____________________
(1) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وامالي الصدوق.
{ 274 }
نشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك»(1).
قال: «فان كان للّه ولياً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا الى الجنة...»(2).
وقال الصادق عليه السلام: «إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(3).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أحسن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر».
وقد أحسن الشاعر بقوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى*** طول الحياة يزيد غير خيال
وإذا افتقرت الى الذخائر لم تجد*** ذخراً يدوم كصالح الأعمال
_____________________
(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي.
(3) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي.
{ 275 }
طاعة اللّه وتقواه:
الانسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عز وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهبات التي ميزته على سائر الخلق «ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الاسراء: 70).
وكان من أبرز مظاهر العناية الالهية بالانسان، ودلائل تكريمه له: أن استخلفه في الأرض، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلاً وأنبياء بعثهم الى العباد بالشرائع والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.
ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه! تستعبدهم الأهواء والشهوات، وتطفي عليهم نوازع التنكر والتمرد على النظم الالهية، وتشريعها الهادف البناء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسفون طرق الغواية والضلال، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً، «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من
{ 276 }
السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون».
أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب؟! بخضوعه للّه عز وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه؟!
أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره؟!!.
أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه؟!
أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية، توخياً للبرء والشفاء؟!.
فلِمَ لا يطيع الانسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضاره؟!.
إنه يستحيل على الانسان أن ينال ما يصبو اليه من سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلا بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.
أنظر كيف يشوّق اللّه عز وجل، عباده الى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبة التمرد والعصيان، وهو الغنيّ المطلق عنهم.
قال تعالى: «ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً»
(الأحزاب: 61)
وقال سبحانه: «ومن يطع اللّه ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار، ومن يتولّ يعذّبه عذاباً اليماً» (الفتح: 17).
{ 272 }
وأما التقوى، فقد علق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعز الأماني والآمال، وإليك بعضها:
1 - المحبة من اللّه تعالى، فقال سبحانه: «إن اللّه يحب المتقين» (التوبة: 4).
2 - النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال: «ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق: 2 - 3).
3 - النصر والتأييد، قال تعالى: «إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (النحل: 128).
4 - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم»
(الأحزاب: 70 - 71 )
وقال: «إنما يتقبل اللّه من المتقين».
5 - البشارة عند الموت، قال تعالى: «الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس:63 - 64).
6 - النجاة من النار، قال تعالى: «ثم ننجّي الذين اتقوا»
(مريم: 72)
7 - الخلود في الجنة، قال تعالى: «أعدت للمتقين»
(آل عمران: 133)
فتجلى من هذا العرض، أن التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال المادية والروحية، الدينية والدنيوية.
{ 278 }
حقيقة الطاعة والتقوى:
والطاعة: هي الخضوع للّه عز وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.
والتقوى: من الوقاية، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.
وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة من عصيانه ومخالفته.
قال الامام الحسن الزكي عليه السلام في موعظته الشهيرة لجنادة: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عز طاعة اللّه عز وجل».
وقال الصادق عليه السلام: «إصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت»(1).
وقال عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
{ 279 }
ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة، وهو قول اللّه عز وجل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» (الزمر: 10) (1).
وقال الباقر عليه السلام: «اذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر الى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة اللّه عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يحبك.
وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه، ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع من أحب»(2).
وقال عليه السلام: ما عرف اللّه من عصاه، وأنشد:
تعصي الاله وأنت تظهر حبّه*** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته*** إنّ المحب لمن أحبّ مطيع
وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا عليه السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول نحن ونحن، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدّثهم، فسمع مقالة زيد، فالتفت اليه. فقال: يا زيد، أغرّك قول بقالي الكوفة إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذريتها على النار، واللّه ما ذلك إلا للحسن والحسين، وولد بطنها خاصة، فأمّا أن يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،
_____________________
(1) البحار م 5 ص 2 ص 49 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.
{ 280 }
وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت أعزّ على اللّه منه! إنّ علي بن الحسين كان يقول: «لمحسننا كفلان من الأجر، ولمسيئنا ضعفان من العذاب».
قال الحسن بن الوشا: ثم التفت اليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية؟ «وقال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» (هود: 46).
فقلت: من الناس من يقرأ «عَمِل غير صالح» ومنهم من يقرأ «عَمَل غير صالح» نفاه عن أبيه.
فقال عليه السلام: كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عز وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا من كان منّا ولم يطع اللّه فليس منا، وأنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت» (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على الصفا، فقال: «يابني هاشم، يابني عبد المطلب، إني رسول اللّه اليكم، وإنّي شفيق عليكم، وإن لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم، يا بني عبد المطلب إلا المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتى الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت اليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم» (2).
وعن جابر قال: قال الباقر عليه السلام: «يا جابر أيكتفي من إنتحل
_____________________
(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا عليه السلام.
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
{ 281 }
التشيع، أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فواللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه - الى أن قال: فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبّ العباد الى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.
يا جابر، واللّه ما يتقرب الى اللّه إلا بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(1).
وعن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: «مه؟! إستغفر اللّه. ثم قال: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فاذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فاذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»(2).
قال الشاعر:
ليس من يقطع طريقاً بطلا*** إنما من يتق اللّه البطل
فاتق اللّه فتقوى اللّه ما*** جاورت قلب امرئ إلا وصل
_____________________
(1) الوفي ج 3 ص 60 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي.
لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت، وجلالة العمر، وأنه أعز ذخائر الحياة وأنفسها.
وحيث كان الوقت كذلك، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة من الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي، الدنيوي والأخروي، كما قال سيد المرسلين صلى اللّه عليه وآله: «ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم»(1).
فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.
_____________________
(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع).
{ 273 }
وحيث كان الانسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه الى كسب المعاش، ونيل المتع واللذائذ المادية، والتهالك عليها، مما يصرفه ويلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوقة الى الاهتمام بالآخرة، والتزود لها من العمل الصالح.
قال تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة: 7 - 8).
وقال تعالى: «من عمل صالحاً من ذكر أو انثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل: 97).
وقال تعالي: «ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة، يُرزقون فيها بغير حساب» (غافر: 40).
وقال تعالى: «من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم الى ربّكم ترجعون» (الجاثية: 15).
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا أبا ذر، إنّك في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع»(1).
وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقلت: يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم
_____________________
(1) الوافي في موعظة رسول اللّه (ص) لأبي ذر.
{ 273 }
نعمّر في البرّية.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا قيس إنّ مع العز ذُلاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً. وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش الا منه، وهو فعلك»(1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن العبد اذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت الى ماله، فيقول: واللّه إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.
قال: فيلتفت الى ولده فيقول: واللّه إني كنت لكم محباً، وإني كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم؟ فيقولون: نؤديك الى حفرتك فنواريك فيها
قال: فيلتفت الى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً، وإنك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم
_____________________
(1) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وامالي الصدوق.
{ 274 }
نشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك»(1).
قال: «فان كان للّه ولياً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا الى الجنة...»(2).
وقال الصادق عليه السلام: «إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(3).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أحسن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر».
وقد أحسن الشاعر بقوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى*** طول الحياة يزيد غير خيال
وإذا افتقرت الى الذخائر لم تجد*** ذخراً يدوم كصالح الأعمال
_____________________
(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي.
(3) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي.
{ 275 }
طاعة اللّه وتقواه:
الانسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عز وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهبات التي ميزته على سائر الخلق «ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الاسراء: 70).
وكان من أبرز مظاهر العناية الالهية بالانسان، ودلائل تكريمه له: أن استخلفه في الأرض، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلاً وأنبياء بعثهم الى العباد بالشرائع والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.
ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه! تستعبدهم الأهواء والشهوات، وتطفي عليهم نوازع التنكر والتمرد على النظم الالهية، وتشريعها الهادف البناء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسفون طرق الغواية والضلال، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً، «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من
{ 276 }
السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون».
أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب؟! بخضوعه للّه عز وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه؟!
أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره؟!!.
أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه؟!
أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية، توخياً للبرء والشفاء؟!.
فلِمَ لا يطيع الانسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضاره؟!.
إنه يستحيل على الانسان أن ينال ما يصبو اليه من سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلا بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.
أنظر كيف يشوّق اللّه عز وجل، عباده الى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبة التمرد والعصيان، وهو الغنيّ المطلق عنهم.
قال تعالى: «ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً»
(الأحزاب: 61)
وقال سبحانه: «ومن يطع اللّه ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار، ومن يتولّ يعذّبه عذاباً اليماً» (الفتح: 17).
{ 272 }
وأما التقوى، فقد علق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعز الأماني والآمال، وإليك بعضها:
1 - المحبة من اللّه تعالى، فقال سبحانه: «إن اللّه يحب المتقين» (التوبة: 4).
2 - النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال: «ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق: 2 - 3).
3 - النصر والتأييد، قال تعالى: «إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (النحل: 128).
4 - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم»
(الأحزاب: 70 - 71 )
وقال: «إنما يتقبل اللّه من المتقين».
5 - البشارة عند الموت، قال تعالى: «الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس:63 - 64).
6 - النجاة من النار، قال تعالى: «ثم ننجّي الذين اتقوا»
(مريم: 72)
7 - الخلود في الجنة، قال تعالى: «أعدت للمتقين»
(آل عمران: 133)
فتجلى من هذا العرض، أن التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال المادية والروحية، الدينية والدنيوية.
{ 278 }
حقيقة الطاعة والتقوى:
والطاعة: هي الخضوع للّه عز وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.
والتقوى: من الوقاية، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.
وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة من عصيانه ومخالفته.
قال الامام الحسن الزكي عليه السلام في موعظته الشهيرة لجنادة: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عز طاعة اللّه عز وجل».
وقال الصادق عليه السلام: «إصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت»(1).
وقال عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
{ 279 }
ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة، وهو قول اللّه عز وجل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» (الزمر: 10) (1).
وقال الباقر عليه السلام: «اذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر الى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة اللّه عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يحبك.
وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه، ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع من أحب»(2).
وقال عليه السلام: ما عرف اللّه من عصاه، وأنشد:
تعصي الاله وأنت تظهر حبّه*** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته*** إنّ المحب لمن أحبّ مطيع
وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا عليه السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول نحن ونحن، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدّثهم، فسمع مقالة زيد، فالتفت اليه. فقال: يا زيد، أغرّك قول بقالي الكوفة إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذريتها على النار، واللّه ما ذلك إلا للحسن والحسين، وولد بطنها خاصة، فأمّا أن يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،
_____________________
(1) البحار م 5 ص 2 ص 49 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.
{ 280 }
وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت أعزّ على اللّه منه! إنّ علي بن الحسين كان يقول: «لمحسننا كفلان من الأجر، ولمسيئنا ضعفان من العذاب».
قال الحسن بن الوشا: ثم التفت اليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية؟ «وقال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» (هود: 46).
فقلت: من الناس من يقرأ «عَمِل غير صالح» ومنهم من يقرأ «عَمَل غير صالح» نفاه عن أبيه.
فقال عليه السلام: كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عز وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا من كان منّا ولم يطع اللّه فليس منا، وأنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت» (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على الصفا، فقال: «يابني هاشم، يابني عبد المطلب، إني رسول اللّه اليكم، وإنّي شفيق عليكم، وإن لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم، يا بني عبد المطلب إلا المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتى الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت اليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم» (2).
وعن جابر قال: قال الباقر عليه السلام: «يا جابر أيكتفي من إنتحل
_____________________
(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا عليه السلام.
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
{ 281 }
التشيع، أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فواللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه - الى أن قال: فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبّ العباد الى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.
يا جابر، واللّه ما يتقرب الى اللّه إلا بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(1).
وعن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: «مه؟! إستغفر اللّه. ثم قال: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فاذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فاذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»(2).
قال الشاعر:
ليس من يقطع طريقاً بطلا*** إنما من يتق اللّه البطل
فاتق اللّه فتقوى اللّه ما*** جاورت قلب امرئ إلا وصل
_____________________
(1) الوفي ج 3 ص 60 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي.