معجزات البحر وعيون الماء
البحر ينشق نصفين
قال تعالى:{ فأحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* ان في ذلك لآية, وما كان أكثرهم مؤمنين}. الشعراء 63-67.
تعدّد ت معجزات موسى عليه السلام مع البحر والنهر وعيون الماء وقد وهب الله موسى هذه المعجزات كي يمكّن المؤمنين من دعوته وينصر موسى عليه السلام على أعدائه, ولكي تكون هذه المعجزات عبرا ايمانية ودروسا تستجيب أمامها العقول المتحجرة, ولو نظرنا لموسى عليه السلام, نجد أن حياته بدأت بصندوق حمله في نهر النيل الى أن وصل الى قصر فرعون, فحملته آسية امرأة فرعون وتربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون على ضفاف النيل.
ومعجزة موسى مع البحر بدأ بغباء فرعون وقومه, فأرسل الله عليهم آيات العذاب كالجراد والضفادع, ثم وقعت آخر آيات العذاب الدنيوي, وهي آية الدم.
لقد تحوّلت مياه النيل الى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد وكانت آية جديدة على قوم فرعون اذ أن الآيات السابقة كانت من النوع المعروف في البيئة الزراعية, التي تقوم حياتها على النهر, سواء أفاض النهر أم أمسك عن فيضانه.
أما آخر الآيات التي عذب بها قوم فرعون فهي الدم, وهذا لون جديد لم تألفه البيئة المصرية, لقد تحولت مياه النيل الى دم, وتمّ هذا التحوّل الى المصريين من أتباع فرعون, فكان موسى وقومه يشربون مياها عاديّة, وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب, يكتشف أن كأسه مملوء بالدم.
كانت هذه الآية من آيات العذاب بمثابة صدمة اهتز لها المصريون وقصر فرعون, انها آية رهيبة وكارثة ضخمة.
ولم يجدوا أمامهم ملاذا يتوسّلون اليه ليتخلصوا من عذاب هذه الآية الرهيبة سوى موسى عليه السلام فذهبوا يتوسلون اليه ويرجونه أن يدعو ربه, وقالوا انهم مقابل ذلك سوف يطلقون سراح بني اسرائيل هذه المرّة بعد أن رفضوا خروجهم ومنعوهم قبل ذلك مرّات ومرّات.
استجاب موسى عليه السلام لتوسلاتهم التي طالما كرروها في مواقف عدة ولم يوفوا بعهودهم أبدا, ودعا موسى ربه فانكشف عنهم العذاب, وعاد الماء صافيا, فشربوا منه وارتووا, ولما حان تنفيذ وعدهم والوفاء بعهدهم الذي عاهدوه موسى عليه السلام رفضوا, ورفض فرعون أن يسمح لموسى باصطحاب قومه من بني اسرائيل والرحيل بهم وزاد الأمر تعقيدا, أن فرعون تشدد أكثر في كفره, واشتد في الهجوم على موسى, وأعلن بين قومه أنه اله, وقال: اليس لي ملك مصر, وهذه الأنهار التي تجري من تحتي؟ وأعلن فرعون أن موسى ساحر كذاب, وأنه رجل فقير لا يملك مالا ولا يملك أسورة واحدة من الذهب.
وقد قصّ القرآ، كل هذا المشهد المثير فقال عز وجل:
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين* فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون* وما نريهم من آية الا هي أكبر من أختها, وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون* وقالوا يا أيّه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك اننا لمهتدون* فلما كشفنا عنهم العذاب اذا هم ينكثون* ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون* أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين* فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين* فاستخف قومه فأطاعوه, انهم كانوا قوما فاسقين*}. الزخرف 46-54.
هكذا بدا فرعون متجبرا مغرورا, وبدا واضحا لموسى عليه السلام أن هذا الفرعون وقومه لن يؤمنوا مهما أعطوا من عهود, وأن فرعون لن يكف عن تعذيب بني اسرائيل, والاستخفاف بهم. شعر موسى عليه السلام أنه لا فائدة من هؤلاء, ومن كبيرهم الفرعون. لقد أغلقوا عقولهم في وجه الايمان, وأغمضوا عيونهم لكي لا ترى جمال الخالق وعبرة خلقه الماثلة أمامهم.
وجاء الدعاء من موسى عليه السلام, جاء هذه المرّة غاضبا ساحقا لا رجعة عنه, وقف مع أخيه هارون وقد شاركه هذا الاحساس بأنه لا فائدة من هؤلاء, رفع موسى يده الى السماء ورفع هارون يده الى السماء ودعا كل منهما ربه فقال: وقال موسى:{ يارب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام, فسوف يعلمون} الزخرف 88-89.
وقد استجاب الله عز وجل لهذ الدعاء, وخاطب موسى وهارون فقال لهما:
قال:{ لقد أجيبت دعوتكما فاستقيما لي ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يونس 89.
ترى ما هي الخطوة القادمة؟ ماذا عليه أن يفعل موسى؟
لقد أمر أن يخرج من مصر, وأذن له بالخروج من مصر واصطحاب قومه معه.
والغريب أن بعض قوم موسى كانوا لم يؤمنوا به بعد وقد ذكرهم الله في آياته فقال عز وجل:
{ فما آمن لموسى الا ذريّة من قومه على خوف من فرعون وملاءيهم أن يفتنهم, وان فرعون لعال في الأرض وانه لمن المسرفين} يونس 83.
لقد انتهى أمر فرعون, وانصرفت مشيئة الله عز وجل أن يوضع حد لجرائم هذا الكافر اللعين, بعد أن استنفدت معه كافة الطرق وخرج من رحمة ربه, صدر الأمر لموسى بالخروج من مصر, واستأذن بنو اسرائيل فرعون في الخروج الى عيد لهم, فأذن لهم وهو كاره, وتجهزوا للخروج وتأهبوا وحملوا معهم حليهم واستعاروا من حلي المصريين شيئا كثيرا.
ومع دخول الليل خرج بنو اسرائيل يتقدمهم موسى عليه السلام وسار بهم نحو البحر الأحمر قاصدا بلاد الشام.
وما هي الا لحظات حتى التقطت وسائل التجسس الخاصة بفرعون واستخباراته, التقطت أخبار خروج موسى مصطحبا قومه الى بلاد الشام وأنه خرج ليلا.
ثار فرعون ثورة عارمة, وأمر أن يحشد جيش عظيم, من كل المملكة, وقال في سياق أوامره الثائرة الغاضبة أن موسى غاظه, فقال:{وانهم لنا لغائظون} الشعراء 55, لقد غاظني موسى, ولا بد من قتاله والقضاء عليه وعلى بني اسرائيل.. وأعلن ذلك صراحةأمام الناس.
وفي وقت قصير جمع فرعون جيشا ضخما, جاء لمطاردة موسى والقضاء عليه, وخرج جيش فرعون مسرعا, كان المشهد مخيفا مهيبا لكثرة عدد الجند وكثافة السلاح الذي يحملونه في ذلك الوقت, بينما حمل بنو اسرائيل جزءا من متاعهم وخرجوا خائفين.
بدأت المطاردة العنيفة, فجيش فرعون يجري بأقصى سرعة, ويطوي الطريق طيّا, في حين أن موسى وبني اسرائيل لم يكونوا بهذه السرعة, لكثرة ما حملوا على ظهورهم وأكتافهم من متاع أحبوا أن يحتفظوا بها لأنفسهم, واقترب جيش فرعون من موسى وقومه, وكلما نظر القوم خلفهم هالهم هذا الجيش الضخم.
ومن بعيد.. ثار غبار يدل على أن جيش الفرعون يقترب, واقترب فعلا وظهرت أعلام الجيش, وامتلأ قوم موسى بالرعب.. لقد كان الموقف حرجا وخطيرا جدا, لقد وجدوا البحر أمامهم والعدو الظالم خلفهم يلاحقهم كي يقضي عليهم وليست أمامهم فرصة واحدة للدفاع عن أنفسهم, انهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين.
لو لحق بهم فرعون فسيذبحهم جميعا, ولن يبقى منهم أحدا.
بدأت الناس تبكي خوفا, ونادت أصوات تقول:
سيدركنا يا موسى.. سيدركنا فرعون.
فقال لهم موسى عليه السلام بهدوء واطمئنان شديد:
كلا.. ان معي ربي سيهدين.
لجأ موسى عليه السلام في هذه الللحظات الى ربه, اذ لا ملجأ الا اليه سبحانه عز وجل, فتلقى أمرا صريحا ووحيا كاملا بأن يضرب بعصاه البحر.
جاء ذلك في القرآن الكريم فقال عز وجل:
{فأتبعوهم مشرقين* فلما تراآ الجمعان قال أصحاب موسى انا لمدركون* قال كلا ان معي ربي سيهدين * فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}
نفذ موسى عليه السلام أمر ربه, ضرب البحر بعصاه فانفلق البحر نصفين, وكانت معجزة هائلة من المعجزات التي منّ الله بها على موسى عليه السلام.
انشق طريق صلب يابس في وسط البحر وأصبح الموج كالجبل الراسخ عن اليمين وعن اليسار, وتقدّم موسى وقومه في وسط هذه المعجزة المدهشة, التي كان يجب أن تتعظ بها جيوش الباطل التي تلاحقهم وتطاردهم.
تقدّم موسى وسار بهم عبر البحر, كانت المعجزة هائلة بكل المقاييس. طريق يابس, وسط أمواج من البحر تموج عن يمين وتموج عن شمال ولا تغرق هذا الطريق الذي انشق في وسطها, والغريب أن جيش فرعون سوف يتابع المسير خلفهم دون النظر أو الدهشة أو التمعن والاعتبار, كل هذا لم يرد على عقول مغلقة, أغلقها الكفر, فخسرت نور الايمان.
لقد كانت الأمواج تعلو وتهبط وتتصارع فيما بينها ولكنها ما ان تصل الى الطريق المشقوق
وسط البحر حتى تبدو وكأن يدا خفيّة تمنعها من أن تغرق هذا الطريق أو حتى تبلله.
وصل فرعون الى البحر, وشاهد هذه المعجزة, شاهد البحر وقد انشق نصفين, ووجد فيه طريقا يابسا. أحسّ في البداية بالخوف, ولكنه زاد في عناده ونسي كل تأمّل وعبرة, وأمر عربته أن تنطلق في هذا الطريق العجيب, فتقدمت عربته مسرعة تقطع الطريق, ولحقه جيشه القوي الجرّار في الطريق, واشتدّت المطاردة هنا وهناك, وأصبح الفريقان على مرمى البصر من بعضهما, ولكن موسى وقومه كانوا قد عبروا البحر, قبل فرعون, وعند خروج آخر فرد من بني اسرائيل من طريق البحر ووقوفه على الضفة الأخرى, التفت موسى عليه السلام الى البحر وأراد أن يضربه بعصاه ليعود كما كان, ولكن الله عز وجل أوحى الى موسى أن يترك البحر على حاله كما هو.
كان موسى يريد أن يفصل البحر بينه وبين فرعون لينجو بقومه من بطش فرعون, مخافة أن يلحق بهم ويبطش بهم ويعذبهم, ولو أنه ضرب البحر ربما لتغيّرت أحوال لاندري ما هي ولكنّ الله عز وجل قال له: {واترك البحر رهوا انهم جند مغرقون} الدخان 24.
هكذا شاءت ارادة الله, لقد أراد الله اغراق الفرعون, ولهذا أمرموسى أن يترك البحر على حاله.
ووصل فرعون بجيشه الى منتصف البحر, وتجاوز منتصفه وكاد يصل الى الضفة الأخرى.. وأصدر الله عز وجل أمرا الى جبريل فحرّك الموج, فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه.
وغرق الفرعون وجيشه, غرق مع كفره وعناده "لقد غرق الكفر ونجا الايمان", وعندما غرق فرعون رأى مقعده في النار وهو يغرق, لذلك أدرك وقد انكشف عنه الحجاب, أدرك أن موسى عليه السلام كان صادقا أمينا, ولم يكن ساحرا أو كاذبا كما ادّعى عليه أمام جموع الكفار من قومه, أدرك أنه عبد ذليل, ولن يكون في يوم من الأيام ربّا كما زعم أمام الناس.
دخل فرعون في سكرات الموت, وأدرك أيضا أنه كان مخطئا عندما حارب موسى عليه السلام وطارده وعاداه وقرّر أن يؤمن في هذه اللحظة, جاءت هذه اللحظة في القرآن الكريم في الآية الكريمة التي تقول:
{ حتى اذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90.
هل قبلت توبة فرعون؟ لا لم تفبل توبته, لأنها جاءت بعد أن أدركه العذاب والموت, وقد قال له جبريل عليه السلام:{ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} يونس 91.
انتهى الوقت المحدد للتوبة, توبة فرعون, وانتهى الأمر ولا نجاة من الغرق والموت, سينجو جسدك وحده, ستموت وتقذف الأمواج جثتك الى الشاطئ, لتكون آية وعبرة لمن بعدك.
قال عز وجل:{ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية, وان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}. يونس 92.
هذه معجزة البحر مع موسى عليه السلام, انها واحدة من المعجزات العظيمة التي أفاء الله بها على عبده موسى عليه السلام. وما أكثر المعجزات..
العصا والحيّة
قال تعالى:
{ وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}. طه 17-21.
1. بداية المعجزات
ازدحمت قصة موسى عليه السلام بالمعجزات, ولعل سبب كل هذا ما كان عليه اليهود من تعنّت وكبرياء, وقد بدأت المعجزات في قصة موسى عليه السلام مع بدء حياته وفي طفولته, فها هو فرعون قد اتخذ قرارا بقتل كل طفل ينجب من بني اسرائيل, ولكن ارادة الله انصرفت لنجاة موسى بل وأن ينمو ويترعرع في قصر فرعون ذاته.
كان ذلك عندما خافت أم موسى على ولدها من الذبح اذا علم فرعون بوجوده, فألهمها الله أن تضع صندوقا وتلقيه في النهر أو في البحر, وظل الصندوق يحمل موسى وتتلاطمه الأمواج حتى وصل الى شاطئ تحت القصر لتراه آسيا زوجة فرعون وتطلب من زوجها أن يبقيه لهم يستمتعون بتربيته ليملأ عليهم دنياهم.
واستمرّت المعجزة لتكمل مسيرة موسى عليه السلام, فها هي أم موسى خائفة والهة على ابنها فأراد الله أن يطمئن قلبها, فألهمها القوة والصبر حتى يجمعها بابنها الذي أصبح عائما في النهر, تراقبه أخته خوفا عليه, وقد كادت أن تصرخ أو تفقد تماسكها لولا مشيئة الله أن تكون قوية شجاعة في ذلك الموقف.
فرحت آسيا بوصول هذا الطفل الجميل الى قصرها وموافقة زوجها فرعون على الابقاء عليه والعدول عن فكرة قتله شأنه شأن أطفال بني اسرائيل, وبقيت أم موسى حزينة باكية, فلم تكد ترمي موسى في نهر النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها خلفه, وظلت تتابع الصندوق الذي يحمل وليدها حتى غاب عن عينها واختفت أخباره. طلع الصباح على أم موسى فاذا قلبها فارغ يذوب حزنا عليه, وكادت تفقد صوابها وتبدي ولهها على وليدها الفقيد, لولا أن الله عز وجل ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها, فهدأت واستكانت واطمأنت, وتركت أمر ابنها الى الله عز وجل, وأمرت ابنتها أن تذهب بهدوء الى جوار قصر فرعون وتحاول أن تعرف أخبار أخيها موسى عليه السلام, وحذرتها من أن يشعر أحد بأنها تتجسس عليهم.
ورفض موسى كل المرضعات, وأوقف قبوله للرضاعة على ثدي أمه!! أليست هذه معجزة كبرى بدأ بها موسى حياته؟!
وقد تحدث القرآن الكريم على طفولة موسى عليه السلام فقال عز وجل:
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا, ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون* وحرّمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}. القصص 10-12.
وكان وعد الله حقا, وأصبحت أم موسى عليه السلام مرضعة لابنها دون أن يشعر فرعون أو أحد من قصره, وكانت تتردد كل يوم علىالقصر فتسعد نفسها ويهدأ فؤادها, وتقرّ عينها برؤية ابنها بعد ارضاعه والتمتع بلذة الأمومة, وقد وصف القرآن هذه المعجزة فقال عز وجل:
{ فرددناه الى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكنّ أكثرهم لا يعلمون}. القصص 13.
كان موسى عليه السلام موضع حب الجميع, فكان لا يراه أحد الا أحبّه وهذا من الله عز وجل اذ قال جلّ شأنه:
{ وألقيت عليك محبة من عندي ولتصنع على عيني}. طه 39.
كبر موسى وترعرع, وأصبح فتيا شابا وتعلم علوما كثيرة, وعلم أنه ليس ابنا لفرعون, وكان يرى اضطهاد فرعون ورجاله وأتباعه لبني اسرائيل, ودخل المدينة على حين غفلة ذات يوم, فوجد رجلا من أتباع فرعون يقتتل مع رجل من بني اسرائيل, واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل ووكز الرجل الظالم بيده فوقع قتيلا, فقد كان موسى قويا لدرجة أن اذا ضرب خصمه ضربة واحدة فانه يقتله. ولم يقصد موسى قتل ذلك الرجل, وكان موته مفاجأة مزعجة له لدرجة أنه قال:{ هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين} ودعا موسى ربه..قال:{ رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي}.
وغفر الله تعالى له, انه هو الغفور الرحيم.
وبعد أيام قليلة جاء قريبه هذا الذي قتل من أجله أحد أقارب فرعون, جاء يستنجد به في معركة أخرى مع رجل آخر, فأدرك موسى أنه من هواة المشاجرات والمعارك, فصرخ به موسى قائلا:{ انك لغويّ مبين} واندفع نحوه فخاف الرجل منه واعتقد أنه سيبطش به كما بطش بعدوّه بالأمس فقال مسترحما موسى:{ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد الا أن تكون جبّارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
بهذه الكلمات كشف الرجل المصري سرا كان يبحث عنه جنود فرعون, فلم يكن قد عرف بعد قاتل الرجل, وأصبح موسى خائفا يترقب خطرا قد يلحق به وهو في المدينة, وأرسل الله عز وجل لموسى رجلا مصريا عاقلا ينصحه ويحذره, وقد أطلعنا القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى:{ فلمّا أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس, ان تريد الا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } القصص 19.
خرج موسى من المدينة ودعا ربّه:{ ربّ نجّني من القوم الظالمين}.
سافر موسى الى مدين وجلس عند بئرها الرئيسي الضخم, وجاء الرجال الأقوياء يسقون أغنامهم. كان موسى متعبا من السفر, جائعا لم يأكل شيئا منذ فترة, أحسّ أنه فقير غريب, هارب من بطش فرعون وقومه بسبب ما أصابه في المدينة, دعا ربه وهو جالس تحت الشجرة بالقرب من البئر قائلا:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}. القصص 24.
في هذا الوقت لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم, ووجد امرأتين تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم القوم, فشعر موسى عليه السلام أن الفتاتين بحاجة الى المساعدة, تقدّم منهما وسأل ان كان يستطيع أن يساعدهما بشيء.. فقالت الفتاة الكبرى:
نحن ننتظر حتى ينتهي الرعاة من سقي غنهم لنسقي.
فقال موسى: ولماذ لا تسقيان معهم؟
فقالت الصغرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال كما ترى!!
نظر اليهما موسى في دهشة لأنهما ترعيان الغنم.. وهذه مهنة يجب أن يعمل بها الرجال, لأنها شاقة متعبة, وسأل موسى عليه السلام مرة أخرى: لماذا ترعيان الغنم؟
فأجابت الصغرى أيضا قائلة: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج معنا كل يوم.
عندئذ تقدم موسى عليه السلام في شهامة الرجال وقال:
سأسقي لكما.
مشى موسى وخلفه الفتاتان وأمامه الغنم, حتى وصل الى بئر مدين وهناك عند البئر اكتشف أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر صخرة ضخمة لا يستطيع أن بحرّكها الا عشرة رجال, وعلى الفور احتضن موسى الصخرة ورفعها من فم البئر, وسط دهشة الفتاتين اللتين شاهدتا عروق رقبته ويديه قد انتفخت بشدّة عند رفعه للصخرة الضخمة, لقد كان موسى رجلا قويا, منحه الله قوة هي بمقاييس عصره معجزة, وسقى عليه السلام الغنم وأعاد الصخرة مكانها وتركهما تمضيان الى حال سبيلهما ثم عاد الى الشجرة التي كان يجلس تحتها من قبل, ورفع يده بالدعاء المشهور عنه فقال مرّة أخرى:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}.
عادت الفتاتن الى دارهما وحكتا لأبيهما شعيب قصة الشاب الكريم الذي سقى لهما وجعلهما تعودان الى الدار مسرعتين مبكرتين على غير عادتهما. وشرحتا له كيف سقى, وكيف نام متعبا, يبدو عليه أنه قادم من سفر بعيد, وجائع ومجهد.
أرسل له الأب احداهما ليعطيه أجر ما سقى لهما, وجاءته على استحياء فجعلها تمشي خلفه وتنبهه هي الى الطريق.
وهناك أكرمه الرجل وقدّم له الطعام وعرض عليه احدى ابنتيه ليتزوجها على أن يعمل في رعي الغنم عنده ثماني سنوات, فان أتمّ عشر سنوات, فله الحرية ان شاء.
وافق موسى على هذا العرض السخي الذي كان بمشيئة الله خيرا لموسى.
ومضت السنون واستكمل الله لنبيه موسى عليه السلام التأهل لكي يكون نبيا يتحمّل الأمانة وعظمها ومشاقها.
وانتهت الفترة المحددة وبدأت مرحلة المعجزة الكبرى في حياة موسى, سنرى بداية المعجزة هناك تحت جبل الطور, وسنرى العلاقة بين العصا والحية.
2. العصا
كانت العصا معجزة من المعجزات التي انصرفت مشيئة الله تعالى أن تكون كما كانت, وأن تفعل ما فعلت ولكن أهميتها في نظر موسى عليه السلام كانت محصورة في شيئين هما على حد قوله:{ أتوكأ عليها}, { وأهش بها على غنمي}.
ولكن لأن موسى نبي ولكلام الأنبياء جوامعا قد ينطقون بها, فتنصرف الأحداث بمشيئة الله لتفسيرها, قد قال بعد الأهميتين الاثنتين اللتين ذكرهما:{ ولي فيها مآرب أخرى}.
وعصا موسى لها عدة أسماء ذكرها العلماء, فقيل أن اسمها "ماسا" وقيل اسمها "نفعة", واسمها "غياث", وقال آخرون: اسمها "عليق" وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام. العرائس للثعلبي 156.
وقد ورد عن عصا موسى عليه السلام قصص وحكايات قصيرة, ذكرها المؤرخون وأصحاب كتب السير, ومنها أنه: كان لعصا موسى شعبتان ومحجن في أسفل الشعبتين وسنان حديديان في أسفلها, وأن موسى عليه السلام اذا دخل مغارة أو سار في ليل شديد الظلام, كانت تظيء شعبتاها كالشمعتين من نار تنيران له مد البصر, وأنه كان اذا أعوزه الماء دلاها في البئر فتمتد على قدر ماء البئر ويصير في رأسها شبه الدلو فيستسقي بها.. الى آخر هذه الصفات التي لا نريد الخوض فيها كثيرا لأننا لا نعرف مدى صحتها.
ومنها أن العصا كانت تضرب بها الأرض فتخرج طعاما يكفي ليوم موسى عليه السلام, وكان يضرب بها على الجبل الوعر الصعب المرتقى وعلى الحجر والشوك فتفرج له الطريق, وكان اذا أراد عبور نهر من الأنهار بلا سفينة ضرب بها عليه فانفلق وبدا له فيه طريق تنفرج..
قضى موسى عليه السلام الأجل الذي حدده له شعيب, تزوّج خلاله ابنته "صفورا", وقرر الخروج من مدين فسار بأهله, منفصلا عن أرض مدين ببلاد الشام, وكان ذلك في فصل الشتاء حيث البرد والظلام الشديد, وكانت معه امرأته وأغنامه التي أعطاها له شعيب أجر ما فعل.
وسار موسى عليه السلام في برّ الشام مبتعدا عن المدن وأماكن العمران مخافة الملوك الذي كانوا بالشام, وكان أكبر همّه عليه السلام يومئذ اخراج أخيه هارون من مصر ان استطاع الى ذلك سبيلا, فسار موسى في البريّة غير عارف بطرقها, فألجأه السير الى جانب الطور الأيمن الغربي في عشيّة شاتية شديدة البرد, وأظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر, وقد كانت زوجته حاملا في شهرها التاسع, ففاجأها الطلق والولادة. فأصابته حيرة شديدة خوفا على زوجته من البرد والظلام وهي في هذه الحالة, فبينما هو كذلك اذ آنس من جانب الطور نورا فحسبه نارا, فقال لأهله:{ امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} يقصد أنه يتمنى أن يجد من يدله على الطريق التي أضلها, فلما أتى النار واقترب منها رأى نورا عظيما ممتدا من السماء الى شجرة عظيمة هناك, كان موسى قد دخل واديا يقال له طوى, لاحظ الصمت والسكون, والدفء والهدوء, واقترب موسى من النار, وما كاد يقترب منها حتى سمع صوتا يناديه:{ أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} النمل 8.
توقف موسى عن السير فجأة, وأصابته رعشة, شعر أن الصوت يأتي من كل مكان ولا يجيء من مكان محدد.
نودي موسى من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة, ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: { اني أنا ربك}. طه 12.
وازداد خوف موسى وارتعاشه, فسمع الصوت يقول: { فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى} طه 12.
فلما سمع ذلك علم أنه ربه, خفق قلبه وكل لسانه وضعفت بنيته وصار حيا كأنه ميّت الا أن روح الحياة تدب فيه من غير حراك, وكان السبب في أمر الله له بأن تمس راحة قدميه الأرض الطيّبة فتناله بركتها لأنها مقدسة, وقال بعض العلماء أن السبب هو أن الحفوة , أي أن يمشي الانسان حافيا, في مكان مقدس أو طاهر تعدّ من أمارات التواضع والاحترام وتهذيب النفس.
ثم تلقى موسى عليه السلام الوحي الاهي الذي بلغه بأنه نبي مختار من الله عز وجل فقال:
{ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* انّ الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى}. طه 13-16.
وجاء درو العصا التي انصرفت مشيئة الله أن تكون معجزة من معجزات موسى عليه السلام, فقد سأل الرحمن الرحيم عبده موسى عليه السلام عن العصا فقال:{ وما تلك بيمينك يا موسى}. طه 17.
أجاب موسى اجابة البشر الذين لهم حدود في المعرفة, فقال في حدود المعرفة, فقال في حدود علمه: { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} طه 18.
الى هذا الحد توقف موسى عليه السلام عن الحديث فهذه حدوده كبشر, والمآرب الأخرى يعرفها موسى عليه السلام, فهو اذا ألقاها فيرى أنها انقلبت حية كأعظم ما يكون من الثعابين السوداء الضخمة تدب على الأرض, جاء في وصفها في كتاب العرائس ص 156: انها سوداء مدلهمة تدب على أربع قوائم فتصير شعبتاها فما مفتوحا وفيه اثنا عشر نابا وضرسا لها صريف وصرير يخرج منها كلهب النار, وعيناها تلمعان كما يلمع البرق.. وكانت تكون في عظم الثعبان وفي خفة الجان ولين الحية, وذلك موافق لنص القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في موضع:{ فاذا هي ثعبان مبين}.
وفي موضع آخر:{ كأنها جانّ}.
وفي موضع ثالث:{ فاذا حيّة تسعى}.
نعود الى مشهد الحوار بين موسى عليه السلام ورب العزة عز وجل فبعد أن عرف موسى ما بيمينه وقال:{ هي عصاي} جاءه الأمر الالهي فجأة يقول:{ ألقها يا موسى}. طه 19.
رمى موسى عليه السلام العصا من يده, وقد ازدادت دهشته, وفوجيء عليه السلام بما يرى أمامه, فالعصا قد تحوّلت الى ثعبان عظيم هائل الجسم, وراح الثعبان يتحرّك بسرعة مخيفة, ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه, وأحسّ أن بدنه يهتز بشدة ويرتعش بعنف, وانتابه شعور لزال من الخوف, فما كان منه الا أن استدار الى الخلف فزعا وانطلق يجري خطوات قليلة حتى ناداه ربه.. كي يثبّته ويطمئنه قائلا:{ يا موسى لا تخف اني لا يخاف لديّ المرسلون} النمل 10.
{ أقبل ولا تخف انك من الآمنين}. القصص 31.
توقف موسى لحظات واستدار وعاد مكانه خائفا من الحية التي تتحرك أمامه. كيف يقف موسى عليه السلام أمام ثعبان ضخم بدأ يتحرّك أمامه ويرفع رأسه ويفتح فمه؟ وعاد صوت رب العزة يناديه قائلا:
{خذها ولا تخف}. القصص 32.
كيف يأخذها وهي تتحرّك؟! لم يسبق لموسى أن أمسك ثعبانا ضخما كهذا بين يديه, فهذا طريق الموت والهلاك بعينه, من يجرؤ على ذلك؟ ولكن جاء التأكيد من الله سبحانه وتعالى والوعد بالاطمئنان وعدم الخوف, قال عز وجلّ:{ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}.
تردد موسى برهة, وخاف وتلعثم لحظة, وبدأ يقترب بحذر شديد, مدّ موسى يده التي كانت ترتعش, وكان على موسى جبة صوف فلفّ كمّه على يده وهو للثعبان هائب, فنودي أن أخرج يدك, فحسر كمّه عن يده ووضع تحت يده رأسها فلما أدخل يده ولمس الثعبان فاذا هي عصاه في يده ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها.
ثم جاء الأمر الالهي مرة أخرى لموسى عليه السلام فقال له:{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب}.القصص 32.
وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فاذا هي تتلألأ كالقمر, يعجز البصر عن النظر الى بريقها الجميل, وقد زاد ذلك انفعال موسى عليه السلام, فوضع يده على قلبه كما أمره ربه:{ واضمم اليك جناحك من الرهب}.
وضع يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه وشعر بالطمأنينة, وسكنت أطرافه عن الارتجاف والارتعاش, واستعاد توازنه وأصدر الله عز وجل أمرا بعد أن أراه هاتين المعجزتين بأن يذهب الى فرعون فيدعوه الى الله برفق ولين, فأبدى موسى عليه السلام خوفه وفزعه من فرعون وقال لربه أنه قتل نفسا منهم ويخاف أن يقتلوه. لم يدر موسى عليه السلام أن عصاه هي التي رأى منها المعجزات ستهز بقدرة الله أركان فرعون وملكه كله.
ولذلك ولعدم دراية موسى عليه السلام بما في الغيب طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون عليه السلام.
طمأن الله نبيّه موسى عليه السلام وقال انه سيكون معهما يسمع ويرى, وأن فرعون رغم جبروته وسطوته لن يمسّهما بسوء, وعرّف موسى أنه هو الغالب. وقد روت الآيات الكريمة كل ما ذكرناه في هذا الموقف عن العصا.
قال تعالى:{ هل أتاك حديث موسى * اذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى* فلما أتاها نودي أن ياموسى* اني أنا ربّك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى* وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى* انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* ان الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى* فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى* وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى* واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى} طه 9-22.
3. في قصر فرعون
مضى موسى عليه السلام الى مصر, ثم دخل على الطاغية فرعون, فحدّثه عن الله عز وجل وعن فضله ورحمته ورزقه, وحدّثه عن وجوب توحيده وعبادته, حاول أن يدعوه بطريق ليّنة, خاطب فيها وجدانه, ولكن فرعون تكبّر وتجبّر, وذكّر موسى بأن ربّاه وانتشله من النيل طفلا, وذكّره بمقتل القبطي, ثم سأله عن رب العالمين فقال: انه ربي وربك, وجادل فرعون جدالا كثيرا, والعصا في يد موسى عليه السلام, وبعد أن أنهى موسى كلامه والرد على فرعون, نظر اليه فرعون وقال في تهديد وعيد:{ لئن اتخذت الها غيري لأجعلنّك من المسجونين} الشعراء 29.
عندئذ أدرك موسى أن الحجج لن تفلح والأمور العقلية لن تحرّك في هذا الفرعون المغرور المتكبّر ساكنا, فتحسس موسى عليه السلام العصا التي في يده, وأدرك أن وقت اظهار المعجزة قد جاء وآن أوانه فقال لفرعون:
{ أولو جئتك بشيء مبين} الشعراء 30.
وكان في نبرة موسى عليه السلام تحدّ لفرعون, فقبل فرعون التحدي على الفور وقال: { فأت به ان كنت من الصادقين} الشعراء 31.
عندئذ أمسك موسى بعصاه وألقاها في صالة القصر وسط ذهول فرعون والوزراء الجالسين حوله, الذين ظنوا أن العصا سقطت منه بسبب ارتباكه من طلب فرعون الدليل على صدقه. وفجأة تحوّلت العصا الى ثعبان مبين, ثعبان هائل يتحرّك بسرعة عظيمة, اتجه الثعبان على الفور الى فرعون, شحب وجه فرعون من الخوف وثبت مكانه في البداية, وخرج الناس مذعورين منفضين عن مجلسه, وذعر فرعون ثم وثب عن مكانه, وصاح مستنجدا بموسى عليه السلام.
وقف الجميع على جوانب بوابات القصر ينظرون بذعر ويشهدون ما يفعله موسى, فهز موسى يده الى الثعبان فعاد في يده عصا كما كان.
عاد موسى يكشف أمام الواقفين معجزته الثانية, أدخل يده في جيبه وأخرجها فاذا هي بيضاء كالقمر, فذهل الواقفون فرعون ووزراؤه.
وهكذا استمرّت العصا معجزة من معجزات موسى, ولها مشاهد كثيرة لم تنته بعد.
4. في يوم السحرة
ظن فرعون بعد كل ما حدث معه وشهده بنفسه أن أمر موسى وهارون عليهما السلام ضرب من ضروب السحر, وقال لحاشيته: ان موسى ساحر يعرف علم السحر والسحرة, يريد أن يخرجكم به من أرضكم, فماذا تأمرون؟
وقال العلماء قول ابن عباس وأورده الثعلبي في العرائس:
قال فرعون أيضا لما رأى من سلطان الله تعالى في يد موسى وعصاه: انن أرى أننا لن نغلب موسى وننتصر عليه الا بمن هو مثله, فأخذنا غلمانا من بين اسرائيل يقال لهم "الغرقاء" يعلمونهم السحركما يعلمون الصغار في الكتّاب, فعلموهم سحرا كثيرا, ثم ان فرعون واعد موسى موعدا, وقال له: أنت ساحر يا موسى.. ولقد قررت أن أكشف أمرك أمام الناس جميعا, وبعد أيام قليلة يحضر السحرة.
فقال موسى عليه السلام: ومتى ألتقي بالسحرة؟
قال فرعون: موعدكم يوم الزينة, انه يوم من أيام الربيع يحتفل به الناس جميعا. وسوف يأتي الناس في ضحى هذا اليوم, هذا هو موعدك يا موسى.
فقال موسى عليه السلام: سأخرج مبكرا من بيتي في هذا اليوم.
وبعد هذا اللقاء خرج موسى عليه السلام من قصر فرعون, وركب عدد من الرجال مركباتهم وأسرعوا يتفرقون في مصر كلها: ان على جميع السحرة الماهرين التوجه الى قصر فرعون لأمر هام. واستدعى فرعون نبي الله موسى وحاول تهديده واخافته ولكن موسى ظل على حاله.
وجاء يوم الزينة, واجتمع السحرة الى فرعون فوعدهم بأجر كبير لو غلبوا موسى عليه السلام.
وخرج الناس جماعات جماعات, أطفالا ونسلاء, شبابا وشيوخا, جاؤوا ليشهدوا مباراة هي الأولى من نوعها: مباراة بين سحرة فكلهم يظنون أن موسى عليه السلام ساحرا!!
بدأ الناس بأخذ أماكنهم في الاحتفال منذ الصباح الباكر, ولم يكن أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء بين هؤلاء السحرة, ولم يكن أحد يعرف بمعجزة موسى التي ستخرس كل الألسنة, وستجعل من فرعون وسحرته مثالا للكذب والتجني.
كانت العصا في يد موسى عليه السلام, وتقدّم السحرة خمسة, عشرة, عشرون ساحرا, وموسى يقف وحيدا في ساحة المباراة أو قل ساحة الحرب والصراع بين الحق والباطل, بين الصدق والكذب, بين التواضع وبين الكبر والافتراء, انها معركة بين الكفر والايمان كفر فرعون وسحرته وايمان موسى عليه السلام ومعجزته.
جلس فرعون تحت مظلة واقية من الشمس, ومن حوله جنوده وحاشيته وقادته وهو يرتدي أفخم الثياب المرصّعة بالجواهر, أما موسى عليه السلام فوقف صامتا يذكر الله في نفسه ولا ينظر لشيء حوله.
وتقدّم السحرة الى موسى عليه السلام وسط الجمع الهائل الذين استجمعوا كل حواسهم لرؤية وسماع ما سيحدث.
قال السحرة لموسى:{ امّا أن تلقي وامّا أن نكون أوّل من ألقى}.
قال موسى عليه السلام: بل ألقوا.
فقال السحرة: نحن الغالبون بعزة فرعون.
فقال موسى: ويلكم, لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أليم.
في هذه اللحظة, التفت موسى فاذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى ترفق بأولياء الله, قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاؤوا ينصرون دين فرعون, عاد جبريل يقول: ترفّق بأولياء الله, هم من الساعة الى صلاة العصر عندك.., وبعد صلاة العصر في الجنة.
وهؤلاء السحرة اختلف في عددهم فقال كعب: انهم كانوا اثني عشر ألفا. وقال عالم آخر: بضعة وثلاثين. وقال عكرمة: سبعين ألفا. وقد أجمعت الأقاويل على أن فرعون جمع السحرة وهم سبعون ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس فيهم الا من هو ساحر ماهر, ثم اختار سبعمائة ثم اختار سبعين من كبارهم وعلمائهم, وكان رئيسهم يسمّى شمعون, وقيل يوحنّا وقيل ان أعلم السحرة كانا بأقصى الصعيد وكانا أخوين.
نعود الى ساحة المباراة: لما قال لهم موسى عليه السلام:{ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فتناجى السحرة فيما بينهم, فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر, فذلك قول الله تعالى:{ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى} فقال السحرة:{ فلنأتينّك بسحر مثله}.
رمى السحرة بعصيّهم وحبالهم, فاذا المكان يمتلىء بالثعابين والحيّات التي تجري هنا وهناك فجأة لقد سحروا أعين الناس, واسترهبوهم وأخافوهم وجاؤوا بسحر عظيم, وهلّل المصريون مكان الاحتفال, وابتسم فرعون ابتسامة عريضة وظنّ أنه قضى على موسى عليه السلام.
نظر موسى الى حبالهم وعصيّهم فشعر بالخوف, وكذلك هارون الواقف الى جواره, ولكنه سرعان ما سمع صوتا يقول له:{ لا تخف انك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}.
اطمأن نبي الله موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه, ولم يعد يرتكب أو ترتعش يداه, ثم رفع عصاه وألقاها فجأة.
ولم تكد عصا موسى عليه السلام تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة, فقد تحوّلت الى ثعبان جبار سريع الحركة, وتقدّم هذا الثعبان فجأة نحو حبال السحرة وعصيّهم التي كانت تتحرّك وبدأ بأكلها واحدا بعد آخر.
راحت عصا موسى عليه السلام تأكل حبال السحرة وعصيّهم بسرعة مخيفة.
وفي دقائق معدودات خلت ساحة المباراة تماما من كل حبال السحرة وعصيّهم, لقد اختفت في بطن عصا موسى, ومشى الثعبان الضخم في أدب نحو موسى, ومدّ موسى يده فتحوّل الثعبان الى عصا.
أدرك السحرة أن هذا ليس سحرا, لعلمهم بالسحر وعلومه.
وكانت المفاجأة الكبرى: لقد سجد السحرة جميعا على الأرض وقالوا:{ آمنّا برب العالمين ربّ موسى وهارون}.
انها المعجزة التي تولّد معها الايمان بالله عز وجل.. ولكن لم ينتهي دور العصا بعد.
5. عند البحر
استمر الصراع بين الحق والباطل, وبين موسى عليه السلام وفرعون الكافر, وقرر فرعون ومن معه من الناس قتل موسى وأتباعه, وعلم موسى بذلك فصحب أتباعه ليلا وسار بهم نحو البحر قاصدا بلاد الشام, وعلم فرعون بذلك فحشد جيشا ضخما, وتحرّك جيش فرعون في أبّهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى.
ومضى الجيش مسرعا يثير غبارا شديدا وموسى ينظر خلفه فيرى غبار الجيش يطارده, فامتلأ قوم موسى رعبا, وكان الموقف حرجا وخطيرا, فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ولا مكان للهرب, ولا توجد لديهم القدرة على القتال والحرب, وقالت النسوة وبعض الرجال: سيدركنا فرعون بجيشه.. سيهلكنا جميعا, ولكن موسى عليه السلام قال:كلا.. ان معي ربي سيهدين.
تحسّس موسى عصاه مطمئنا.. طوّحها في الهواء وضرب بها البحر فانفلق الى جزئين, كل منهما كالطود العظيم, وتقدّم موسى في الطريق الجديد وسط البحر وتبعه فرعون.
وانتهى موسى من عبور البحر, فنظر وراءه وأراد أن يضرب بعصاه ولكن الله أوحى اليه بأن يترك البحر على حاله وينتظر حتى يدخل كل جنود الكفر في الطريق وسط البحر:{ واترك البحر رهوا, انهم جند مغرقون}. الدخان 24.
ولما أذن الله تعالى, ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه ثانية, فعاد البحر كسالف عهده, وانهالت الأمواج على فرعون وجنوده, ولما أدرك الغرق فرعون قال:{ آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين}. يونس 90.
ولكن الله لم يقبل توبته لأنها جاءت متأخرة, فقد عاث في الأرض فسادا وكبرا, فكان من المغرقين.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
صدق الله العظيم
البحر ينشق نصفين
قال تعالى:{ فأحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* ان في ذلك لآية, وما كان أكثرهم مؤمنين}. الشعراء 63-67.
تعدّد ت معجزات موسى عليه السلام مع البحر والنهر وعيون الماء وقد وهب الله موسى هذه المعجزات كي يمكّن المؤمنين من دعوته وينصر موسى عليه السلام على أعدائه, ولكي تكون هذه المعجزات عبرا ايمانية ودروسا تستجيب أمامها العقول المتحجرة, ولو نظرنا لموسى عليه السلام, نجد أن حياته بدأت بصندوق حمله في نهر النيل الى أن وصل الى قصر فرعون, فحملته آسية امرأة فرعون وتربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون على ضفاف النيل.
ومعجزة موسى مع البحر بدأ بغباء فرعون وقومه, فأرسل الله عليهم آيات العذاب كالجراد والضفادع, ثم وقعت آخر آيات العذاب الدنيوي, وهي آية الدم.
لقد تحوّلت مياه النيل الى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد وكانت آية جديدة على قوم فرعون اذ أن الآيات السابقة كانت من النوع المعروف في البيئة الزراعية, التي تقوم حياتها على النهر, سواء أفاض النهر أم أمسك عن فيضانه.
أما آخر الآيات التي عذب بها قوم فرعون فهي الدم, وهذا لون جديد لم تألفه البيئة المصرية, لقد تحولت مياه النيل الى دم, وتمّ هذا التحوّل الى المصريين من أتباع فرعون, فكان موسى وقومه يشربون مياها عاديّة, وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب, يكتشف أن كأسه مملوء بالدم.
كانت هذه الآية من آيات العذاب بمثابة صدمة اهتز لها المصريون وقصر فرعون, انها آية رهيبة وكارثة ضخمة.
ولم يجدوا أمامهم ملاذا يتوسّلون اليه ليتخلصوا من عذاب هذه الآية الرهيبة سوى موسى عليه السلام فذهبوا يتوسلون اليه ويرجونه أن يدعو ربه, وقالوا انهم مقابل ذلك سوف يطلقون سراح بني اسرائيل هذه المرّة بعد أن رفضوا خروجهم ومنعوهم قبل ذلك مرّات ومرّات.
استجاب موسى عليه السلام لتوسلاتهم التي طالما كرروها في مواقف عدة ولم يوفوا بعهودهم أبدا, ودعا موسى ربه فانكشف عنهم العذاب, وعاد الماء صافيا, فشربوا منه وارتووا, ولما حان تنفيذ وعدهم والوفاء بعهدهم الذي عاهدوه موسى عليه السلام رفضوا, ورفض فرعون أن يسمح لموسى باصطحاب قومه من بني اسرائيل والرحيل بهم وزاد الأمر تعقيدا, أن فرعون تشدد أكثر في كفره, واشتد في الهجوم على موسى, وأعلن بين قومه أنه اله, وقال: اليس لي ملك مصر, وهذه الأنهار التي تجري من تحتي؟ وأعلن فرعون أن موسى ساحر كذاب, وأنه رجل فقير لا يملك مالا ولا يملك أسورة واحدة من الذهب.
وقد قصّ القرآ، كل هذا المشهد المثير فقال عز وجل:
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا الى فرعون وملئه فقال اني رسول رب العالمين* فلما جاءهم بآياتنا اذا هم منها يضحكون* وما نريهم من آية الا هي أكبر من أختها, وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون* وقالوا يا أيّه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك اننا لمهتدون* فلما كشفنا عنهم العذاب اذا هم ينكثون* ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون* أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين* فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين* فاستخف قومه فأطاعوه, انهم كانوا قوما فاسقين*}. الزخرف 46-54.
هكذا بدا فرعون متجبرا مغرورا, وبدا واضحا لموسى عليه السلام أن هذا الفرعون وقومه لن يؤمنوا مهما أعطوا من عهود, وأن فرعون لن يكف عن تعذيب بني اسرائيل, والاستخفاف بهم. شعر موسى عليه السلام أنه لا فائدة من هؤلاء, ومن كبيرهم الفرعون. لقد أغلقوا عقولهم في وجه الايمان, وأغمضوا عيونهم لكي لا ترى جمال الخالق وعبرة خلقه الماثلة أمامهم.
وجاء الدعاء من موسى عليه السلام, جاء هذه المرّة غاضبا ساحقا لا رجعة عنه, وقف مع أخيه هارون وقد شاركه هذا الاحساس بأنه لا فائدة من هؤلاء, رفع موسى يده الى السماء ورفع هارون يده الى السماء ودعا كل منهما ربه فقال: وقال موسى:{ يارب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام, فسوف يعلمون} الزخرف 88-89.
وقد استجاب الله عز وجل لهذ الدعاء, وخاطب موسى وهارون فقال لهما:
قال:{ لقد أجيبت دعوتكما فاستقيما لي ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يونس 89.
ترى ما هي الخطوة القادمة؟ ماذا عليه أن يفعل موسى؟
لقد أمر أن يخرج من مصر, وأذن له بالخروج من مصر واصطحاب قومه معه.
والغريب أن بعض قوم موسى كانوا لم يؤمنوا به بعد وقد ذكرهم الله في آياته فقال عز وجل:
{ فما آمن لموسى الا ذريّة من قومه على خوف من فرعون وملاءيهم أن يفتنهم, وان فرعون لعال في الأرض وانه لمن المسرفين} يونس 83.
لقد انتهى أمر فرعون, وانصرفت مشيئة الله عز وجل أن يوضع حد لجرائم هذا الكافر اللعين, بعد أن استنفدت معه كافة الطرق وخرج من رحمة ربه, صدر الأمر لموسى بالخروج من مصر, واستأذن بنو اسرائيل فرعون في الخروج الى عيد لهم, فأذن لهم وهو كاره, وتجهزوا للخروج وتأهبوا وحملوا معهم حليهم واستعاروا من حلي المصريين شيئا كثيرا.
ومع دخول الليل خرج بنو اسرائيل يتقدمهم موسى عليه السلام وسار بهم نحو البحر الأحمر قاصدا بلاد الشام.
وما هي الا لحظات حتى التقطت وسائل التجسس الخاصة بفرعون واستخباراته, التقطت أخبار خروج موسى مصطحبا قومه الى بلاد الشام وأنه خرج ليلا.
ثار فرعون ثورة عارمة, وأمر أن يحشد جيش عظيم, من كل المملكة, وقال في سياق أوامره الثائرة الغاضبة أن موسى غاظه, فقال:{وانهم لنا لغائظون} الشعراء 55, لقد غاظني موسى, ولا بد من قتاله والقضاء عليه وعلى بني اسرائيل.. وأعلن ذلك صراحةأمام الناس.
وفي وقت قصير جمع فرعون جيشا ضخما, جاء لمطاردة موسى والقضاء عليه, وخرج جيش فرعون مسرعا, كان المشهد مخيفا مهيبا لكثرة عدد الجند وكثافة السلاح الذي يحملونه في ذلك الوقت, بينما حمل بنو اسرائيل جزءا من متاعهم وخرجوا خائفين.
بدأت المطاردة العنيفة, فجيش فرعون يجري بأقصى سرعة, ويطوي الطريق طيّا, في حين أن موسى وبني اسرائيل لم يكونوا بهذه السرعة, لكثرة ما حملوا على ظهورهم وأكتافهم من متاع أحبوا أن يحتفظوا بها لأنفسهم, واقترب جيش فرعون من موسى وقومه, وكلما نظر القوم خلفهم هالهم هذا الجيش الضخم.
ومن بعيد.. ثار غبار يدل على أن جيش الفرعون يقترب, واقترب فعلا وظهرت أعلام الجيش, وامتلأ قوم موسى بالرعب.. لقد كان الموقف حرجا وخطيرا جدا, لقد وجدوا البحر أمامهم والعدو الظالم خلفهم يلاحقهم كي يقضي عليهم وليست أمامهم فرصة واحدة للدفاع عن أنفسهم, انهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين.
لو لحق بهم فرعون فسيذبحهم جميعا, ولن يبقى منهم أحدا.
بدأت الناس تبكي خوفا, ونادت أصوات تقول:
سيدركنا يا موسى.. سيدركنا فرعون.
فقال لهم موسى عليه السلام بهدوء واطمئنان شديد:
كلا.. ان معي ربي سيهدين.
لجأ موسى عليه السلام في هذه الللحظات الى ربه, اذ لا ملجأ الا اليه سبحانه عز وجل, فتلقى أمرا صريحا ووحيا كاملا بأن يضرب بعصاه البحر.
جاء ذلك في القرآن الكريم فقال عز وجل:
{فأتبعوهم مشرقين* فلما تراآ الجمعان قال أصحاب موسى انا لمدركون* قال كلا ان معي ربي سيهدين * فأوحينا الى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}
نفذ موسى عليه السلام أمر ربه, ضرب البحر بعصاه فانفلق البحر نصفين, وكانت معجزة هائلة من المعجزات التي منّ الله بها على موسى عليه السلام.
انشق طريق صلب يابس في وسط البحر وأصبح الموج كالجبل الراسخ عن اليمين وعن اليسار, وتقدّم موسى وقومه في وسط هذه المعجزة المدهشة, التي كان يجب أن تتعظ بها جيوش الباطل التي تلاحقهم وتطاردهم.
تقدّم موسى وسار بهم عبر البحر, كانت المعجزة هائلة بكل المقاييس. طريق يابس, وسط أمواج من البحر تموج عن يمين وتموج عن شمال ولا تغرق هذا الطريق الذي انشق في وسطها, والغريب أن جيش فرعون سوف يتابع المسير خلفهم دون النظر أو الدهشة أو التمعن والاعتبار, كل هذا لم يرد على عقول مغلقة, أغلقها الكفر, فخسرت نور الايمان.
لقد كانت الأمواج تعلو وتهبط وتتصارع فيما بينها ولكنها ما ان تصل الى الطريق المشقوق
وسط البحر حتى تبدو وكأن يدا خفيّة تمنعها من أن تغرق هذا الطريق أو حتى تبلله.
وصل فرعون الى البحر, وشاهد هذه المعجزة, شاهد البحر وقد انشق نصفين, ووجد فيه طريقا يابسا. أحسّ في البداية بالخوف, ولكنه زاد في عناده ونسي كل تأمّل وعبرة, وأمر عربته أن تنطلق في هذا الطريق العجيب, فتقدمت عربته مسرعة تقطع الطريق, ولحقه جيشه القوي الجرّار في الطريق, واشتدّت المطاردة هنا وهناك, وأصبح الفريقان على مرمى البصر من بعضهما, ولكن موسى وقومه كانوا قد عبروا البحر, قبل فرعون, وعند خروج آخر فرد من بني اسرائيل من طريق البحر ووقوفه على الضفة الأخرى, التفت موسى عليه السلام الى البحر وأراد أن يضربه بعصاه ليعود كما كان, ولكن الله عز وجل أوحى الى موسى أن يترك البحر على حاله كما هو.
كان موسى يريد أن يفصل البحر بينه وبين فرعون لينجو بقومه من بطش فرعون, مخافة أن يلحق بهم ويبطش بهم ويعذبهم, ولو أنه ضرب البحر ربما لتغيّرت أحوال لاندري ما هي ولكنّ الله عز وجل قال له: {واترك البحر رهوا انهم جند مغرقون} الدخان 24.
هكذا شاءت ارادة الله, لقد أراد الله اغراق الفرعون, ولهذا أمرموسى أن يترك البحر على حاله.
ووصل فرعون بجيشه الى منتصف البحر, وتجاوز منتصفه وكاد يصل الى الضفة الأخرى.. وأصدر الله عز وجل أمرا الى جبريل فحرّك الموج, فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه.
وغرق الفرعون وجيشه, غرق مع كفره وعناده "لقد غرق الكفر ونجا الايمان", وعندما غرق فرعون رأى مقعده في النار وهو يغرق, لذلك أدرك وقد انكشف عنه الحجاب, أدرك أن موسى عليه السلام كان صادقا أمينا, ولم يكن ساحرا أو كاذبا كما ادّعى عليه أمام جموع الكفار من قومه, أدرك أنه عبد ذليل, ولن يكون في يوم من الأيام ربّا كما زعم أمام الناس.
دخل فرعون في سكرات الموت, وأدرك أيضا أنه كان مخطئا عندما حارب موسى عليه السلام وطارده وعاداه وقرّر أن يؤمن في هذه اللحظة, جاءت هذه اللحظة في القرآن الكريم في الآية الكريمة التي تقول:
{ حتى اذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90.
هل قبلت توبة فرعون؟ لا لم تفبل توبته, لأنها جاءت بعد أن أدركه العذاب والموت, وقد قال له جبريل عليه السلام:{ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} يونس 91.
انتهى الوقت المحدد للتوبة, توبة فرعون, وانتهى الأمر ولا نجاة من الغرق والموت, سينجو جسدك وحده, ستموت وتقذف الأمواج جثتك الى الشاطئ, لتكون آية وعبرة لمن بعدك.
قال عز وجل:{ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية, وان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}. يونس 92.
هذه معجزة البحر مع موسى عليه السلام, انها واحدة من المعجزات العظيمة التي أفاء الله بها على عبده موسى عليه السلام. وما أكثر المعجزات..
العصا والحيّة
قال تعالى:
{ وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}. طه 17-21.
1. بداية المعجزات
ازدحمت قصة موسى عليه السلام بالمعجزات, ولعل سبب كل هذا ما كان عليه اليهود من تعنّت وكبرياء, وقد بدأت المعجزات في قصة موسى عليه السلام مع بدء حياته وفي طفولته, فها هو فرعون قد اتخذ قرارا بقتل كل طفل ينجب من بني اسرائيل, ولكن ارادة الله انصرفت لنجاة موسى بل وأن ينمو ويترعرع في قصر فرعون ذاته.
كان ذلك عندما خافت أم موسى على ولدها من الذبح اذا علم فرعون بوجوده, فألهمها الله أن تضع صندوقا وتلقيه في النهر أو في البحر, وظل الصندوق يحمل موسى وتتلاطمه الأمواج حتى وصل الى شاطئ تحت القصر لتراه آسيا زوجة فرعون وتطلب من زوجها أن يبقيه لهم يستمتعون بتربيته ليملأ عليهم دنياهم.
واستمرّت المعجزة لتكمل مسيرة موسى عليه السلام, فها هي أم موسى خائفة والهة على ابنها فأراد الله أن يطمئن قلبها, فألهمها القوة والصبر حتى يجمعها بابنها الذي أصبح عائما في النهر, تراقبه أخته خوفا عليه, وقد كادت أن تصرخ أو تفقد تماسكها لولا مشيئة الله أن تكون قوية شجاعة في ذلك الموقف.
فرحت آسيا بوصول هذا الطفل الجميل الى قصرها وموافقة زوجها فرعون على الابقاء عليه والعدول عن فكرة قتله شأنه شأن أطفال بني اسرائيل, وبقيت أم موسى حزينة باكية, فلم تكد ترمي موسى في نهر النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها خلفه, وظلت تتابع الصندوق الذي يحمل وليدها حتى غاب عن عينها واختفت أخباره. طلع الصباح على أم موسى فاذا قلبها فارغ يذوب حزنا عليه, وكادت تفقد صوابها وتبدي ولهها على وليدها الفقيد, لولا أن الله عز وجل ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها, فهدأت واستكانت واطمأنت, وتركت أمر ابنها الى الله عز وجل, وأمرت ابنتها أن تذهب بهدوء الى جوار قصر فرعون وتحاول أن تعرف أخبار أخيها موسى عليه السلام, وحذرتها من أن يشعر أحد بأنها تتجسس عليهم.
ورفض موسى كل المرضعات, وأوقف قبوله للرضاعة على ثدي أمه!! أليست هذه معجزة كبرى بدأ بها موسى حياته؟!
وقد تحدث القرآن الكريم على طفولة موسى عليه السلام فقال عز وجل:
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا, ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون* وحرّمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}. القصص 10-12.
وكان وعد الله حقا, وأصبحت أم موسى عليه السلام مرضعة لابنها دون أن يشعر فرعون أو أحد من قصره, وكانت تتردد كل يوم علىالقصر فتسعد نفسها ويهدأ فؤادها, وتقرّ عينها برؤية ابنها بعد ارضاعه والتمتع بلذة الأمومة, وقد وصف القرآن هذه المعجزة فقال عز وجل:
{ فرددناه الى أمه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكنّ أكثرهم لا يعلمون}. القصص 13.
كان موسى عليه السلام موضع حب الجميع, فكان لا يراه أحد الا أحبّه وهذا من الله عز وجل اذ قال جلّ شأنه:
{ وألقيت عليك محبة من عندي ولتصنع على عيني}. طه 39.
كبر موسى وترعرع, وأصبح فتيا شابا وتعلم علوما كثيرة, وعلم أنه ليس ابنا لفرعون, وكان يرى اضطهاد فرعون ورجاله وأتباعه لبني اسرائيل, ودخل المدينة على حين غفلة ذات يوم, فوجد رجلا من أتباع فرعون يقتتل مع رجل من بني اسرائيل, واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل ووكز الرجل الظالم بيده فوقع قتيلا, فقد كان موسى قويا لدرجة أن اذا ضرب خصمه ضربة واحدة فانه يقتله. ولم يقصد موسى قتل ذلك الرجل, وكان موته مفاجأة مزعجة له لدرجة أنه قال:{ هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين} ودعا موسى ربه..قال:{ رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي}.
وغفر الله تعالى له, انه هو الغفور الرحيم.
وبعد أيام قليلة جاء قريبه هذا الذي قتل من أجله أحد أقارب فرعون, جاء يستنجد به في معركة أخرى مع رجل آخر, فأدرك موسى أنه من هواة المشاجرات والمعارك, فصرخ به موسى قائلا:{ انك لغويّ مبين} واندفع نحوه فخاف الرجل منه واعتقد أنه سيبطش به كما بطش بعدوّه بالأمس فقال مسترحما موسى:{ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد الا أن تكون جبّارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
بهذه الكلمات كشف الرجل المصري سرا كان يبحث عنه جنود فرعون, فلم يكن قد عرف بعد قاتل الرجل, وأصبح موسى خائفا يترقب خطرا قد يلحق به وهو في المدينة, وأرسل الله عز وجل لموسى رجلا مصريا عاقلا ينصحه ويحذره, وقد أطلعنا القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى:{ فلمّا أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس, ان تريد الا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين } القصص 19.
خرج موسى من المدينة ودعا ربّه:{ ربّ نجّني من القوم الظالمين}.
سافر موسى الى مدين وجلس عند بئرها الرئيسي الضخم, وجاء الرجال الأقوياء يسقون أغنامهم. كان موسى متعبا من السفر, جائعا لم يأكل شيئا منذ فترة, أحسّ أنه فقير غريب, هارب من بطش فرعون وقومه بسبب ما أصابه في المدينة, دعا ربه وهو جالس تحت الشجرة بالقرب من البئر قائلا:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}. القصص 24.
في هذا الوقت لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم, ووجد امرأتين تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم القوم, فشعر موسى عليه السلام أن الفتاتين بحاجة الى المساعدة, تقدّم منهما وسأل ان كان يستطيع أن يساعدهما بشيء.. فقالت الفتاة الكبرى:
نحن ننتظر حتى ينتهي الرعاة من سقي غنهم لنسقي.
فقال موسى: ولماذ لا تسقيان معهم؟
فقالت الصغرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال كما ترى!!
نظر اليهما موسى في دهشة لأنهما ترعيان الغنم.. وهذه مهنة يجب أن يعمل بها الرجال, لأنها شاقة متعبة, وسأل موسى عليه السلام مرة أخرى: لماذا ترعيان الغنم؟
فأجابت الصغرى أيضا قائلة: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج معنا كل يوم.
عندئذ تقدم موسى عليه السلام في شهامة الرجال وقال:
سأسقي لكما.
مشى موسى وخلفه الفتاتان وأمامه الغنم, حتى وصل الى بئر مدين وهناك عند البئر اكتشف أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر صخرة ضخمة لا يستطيع أن بحرّكها الا عشرة رجال, وعلى الفور احتضن موسى الصخرة ورفعها من فم البئر, وسط دهشة الفتاتين اللتين شاهدتا عروق رقبته ويديه قد انتفخت بشدّة عند رفعه للصخرة الضخمة, لقد كان موسى رجلا قويا, منحه الله قوة هي بمقاييس عصره معجزة, وسقى عليه السلام الغنم وأعاد الصخرة مكانها وتركهما تمضيان الى حال سبيلهما ثم عاد الى الشجرة التي كان يجلس تحتها من قبل, ورفع يده بالدعاء المشهور عنه فقال مرّة أخرى:{ ربّ اني لما أنزلت اليّ من خير فقير}.
عادت الفتاتن الى دارهما وحكتا لأبيهما شعيب قصة الشاب الكريم الذي سقى لهما وجعلهما تعودان الى الدار مسرعتين مبكرتين على غير عادتهما. وشرحتا له كيف سقى, وكيف نام متعبا, يبدو عليه أنه قادم من سفر بعيد, وجائع ومجهد.
أرسل له الأب احداهما ليعطيه أجر ما سقى لهما, وجاءته على استحياء فجعلها تمشي خلفه وتنبهه هي الى الطريق.
وهناك أكرمه الرجل وقدّم له الطعام وعرض عليه احدى ابنتيه ليتزوجها على أن يعمل في رعي الغنم عنده ثماني سنوات, فان أتمّ عشر سنوات, فله الحرية ان شاء.
وافق موسى على هذا العرض السخي الذي كان بمشيئة الله خيرا لموسى.
ومضت السنون واستكمل الله لنبيه موسى عليه السلام التأهل لكي يكون نبيا يتحمّل الأمانة وعظمها ومشاقها.
وانتهت الفترة المحددة وبدأت مرحلة المعجزة الكبرى في حياة موسى, سنرى بداية المعجزة هناك تحت جبل الطور, وسنرى العلاقة بين العصا والحية.
2. العصا
كانت العصا معجزة من المعجزات التي انصرفت مشيئة الله تعالى أن تكون كما كانت, وأن تفعل ما فعلت ولكن أهميتها في نظر موسى عليه السلام كانت محصورة في شيئين هما على حد قوله:{ أتوكأ عليها}, { وأهش بها على غنمي}.
ولكن لأن موسى نبي ولكلام الأنبياء جوامعا قد ينطقون بها, فتنصرف الأحداث بمشيئة الله لتفسيرها, قد قال بعد الأهميتين الاثنتين اللتين ذكرهما:{ ولي فيها مآرب أخرى}.
وعصا موسى لها عدة أسماء ذكرها العلماء, فقيل أن اسمها "ماسا" وقيل اسمها "نفعة", واسمها "غياث", وقال آخرون: اسمها "عليق" وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام. العرائس للثعلبي 156.
وقد ورد عن عصا موسى عليه السلام قصص وحكايات قصيرة, ذكرها المؤرخون وأصحاب كتب السير, ومنها أنه: كان لعصا موسى شعبتان ومحجن في أسفل الشعبتين وسنان حديديان في أسفلها, وأن موسى عليه السلام اذا دخل مغارة أو سار في ليل شديد الظلام, كانت تظيء شعبتاها كالشمعتين من نار تنيران له مد البصر, وأنه كان اذا أعوزه الماء دلاها في البئر فتمتد على قدر ماء البئر ويصير في رأسها شبه الدلو فيستسقي بها.. الى آخر هذه الصفات التي لا نريد الخوض فيها كثيرا لأننا لا نعرف مدى صحتها.
ومنها أن العصا كانت تضرب بها الأرض فتخرج طعاما يكفي ليوم موسى عليه السلام, وكان يضرب بها على الجبل الوعر الصعب المرتقى وعلى الحجر والشوك فتفرج له الطريق, وكان اذا أراد عبور نهر من الأنهار بلا سفينة ضرب بها عليه فانفلق وبدا له فيه طريق تنفرج..
قضى موسى عليه السلام الأجل الذي حدده له شعيب, تزوّج خلاله ابنته "صفورا", وقرر الخروج من مدين فسار بأهله, منفصلا عن أرض مدين ببلاد الشام, وكان ذلك في فصل الشتاء حيث البرد والظلام الشديد, وكانت معه امرأته وأغنامه التي أعطاها له شعيب أجر ما فعل.
وسار موسى عليه السلام في برّ الشام مبتعدا عن المدن وأماكن العمران مخافة الملوك الذي كانوا بالشام, وكان أكبر همّه عليه السلام يومئذ اخراج أخيه هارون من مصر ان استطاع الى ذلك سبيلا, فسار موسى في البريّة غير عارف بطرقها, فألجأه السير الى جانب الطور الأيمن الغربي في عشيّة شاتية شديدة البرد, وأظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر, وقد كانت زوجته حاملا في شهرها التاسع, ففاجأها الطلق والولادة. فأصابته حيرة شديدة خوفا على زوجته من البرد والظلام وهي في هذه الحالة, فبينما هو كذلك اذ آنس من جانب الطور نورا فحسبه نارا, فقال لأهله:{ امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} يقصد أنه يتمنى أن يجد من يدله على الطريق التي أضلها, فلما أتى النار واقترب منها رأى نورا عظيما ممتدا من السماء الى شجرة عظيمة هناك, كان موسى قد دخل واديا يقال له طوى, لاحظ الصمت والسكون, والدفء والهدوء, واقترب موسى من النار, وما كاد يقترب منها حتى سمع صوتا يناديه:{ أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} النمل 8.
توقف موسى عن السير فجأة, وأصابته رعشة, شعر أن الصوت يأتي من كل مكان ولا يجيء من مكان محدد.
نودي موسى من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة, ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: { اني أنا ربك}. طه 12.
وازداد خوف موسى وارتعاشه, فسمع الصوت يقول: { فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى} طه 12.
فلما سمع ذلك علم أنه ربه, خفق قلبه وكل لسانه وضعفت بنيته وصار حيا كأنه ميّت الا أن روح الحياة تدب فيه من غير حراك, وكان السبب في أمر الله له بأن تمس راحة قدميه الأرض الطيّبة فتناله بركتها لأنها مقدسة, وقال بعض العلماء أن السبب هو أن الحفوة , أي أن يمشي الانسان حافيا, في مكان مقدس أو طاهر تعدّ من أمارات التواضع والاحترام وتهذيب النفس.
ثم تلقى موسى عليه السلام الوحي الاهي الذي بلغه بأنه نبي مختار من الله عز وجل فقال:
{ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* انّ الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى}. طه 13-16.
وجاء درو العصا التي انصرفت مشيئة الله أن تكون معجزة من معجزات موسى عليه السلام, فقد سأل الرحمن الرحيم عبده موسى عليه السلام عن العصا فقال:{ وما تلك بيمينك يا موسى}. طه 17.
أجاب موسى اجابة البشر الذين لهم حدود في المعرفة, فقال في حدود المعرفة, فقال في حدود علمه: { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} طه 18.
الى هذا الحد توقف موسى عليه السلام عن الحديث فهذه حدوده كبشر, والمآرب الأخرى يعرفها موسى عليه السلام, فهو اذا ألقاها فيرى أنها انقلبت حية كأعظم ما يكون من الثعابين السوداء الضخمة تدب على الأرض, جاء في وصفها في كتاب العرائس ص 156: انها سوداء مدلهمة تدب على أربع قوائم فتصير شعبتاها فما مفتوحا وفيه اثنا عشر نابا وضرسا لها صريف وصرير يخرج منها كلهب النار, وعيناها تلمعان كما يلمع البرق.. وكانت تكون في عظم الثعبان وفي خفة الجان ولين الحية, وذلك موافق لنص القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى في موضع:{ فاذا هي ثعبان مبين}.
وفي موضع آخر:{ كأنها جانّ}.
وفي موضع ثالث:{ فاذا حيّة تسعى}.
نعود الى مشهد الحوار بين موسى عليه السلام ورب العزة عز وجل فبعد أن عرف موسى ما بيمينه وقال:{ هي عصاي} جاءه الأمر الالهي فجأة يقول:{ ألقها يا موسى}. طه 19.
رمى موسى عليه السلام العصا من يده, وقد ازدادت دهشته, وفوجيء عليه السلام بما يرى أمامه, فالعصا قد تحوّلت الى ثعبان عظيم هائل الجسم, وراح الثعبان يتحرّك بسرعة مخيفة, ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه, وأحسّ أن بدنه يهتز بشدة ويرتعش بعنف, وانتابه شعور لزال من الخوف, فما كان منه الا أن استدار الى الخلف فزعا وانطلق يجري خطوات قليلة حتى ناداه ربه.. كي يثبّته ويطمئنه قائلا:{ يا موسى لا تخف اني لا يخاف لديّ المرسلون} النمل 10.
{ أقبل ولا تخف انك من الآمنين}. القصص 31.
توقف موسى لحظات واستدار وعاد مكانه خائفا من الحية التي تتحرك أمامه. كيف يقف موسى عليه السلام أمام ثعبان ضخم بدأ يتحرّك أمامه ويرفع رأسه ويفتح فمه؟ وعاد صوت رب العزة يناديه قائلا:
{خذها ولا تخف}. القصص 32.
كيف يأخذها وهي تتحرّك؟! لم يسبق لموسى أن أمسك ثعبانا ضخما كهذا بين يديه, فهذا طريق الموت والهلاك بعينه, من يجرؤ على ذلك؟ ولكن جاء التأكيد من الله سبحانه وتعالى والوعد بالاطمئنان وعدم الخوف, قال عز وجلّ:{ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}.
تردد موسى برهة, وخاف وتلعثم لحظة, وبدأ يقترب بحذر شديد, مدّ موسى يده التي كانت ترتعش, وكان على موسى جبة صوف فلفّ كمّه على يده وهو للثعبان هائب, فنودي أن أخرج يدك, فحسر كمّه عن يده ووضع تحت يده رأسها فلما أدخل يده ولمس الثعبان فاذا هي عصاه في يده ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها.
ثم جاء الأمر الالهي مرة أخرى لموسى عليه السلام فقال له:{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم اليك جناحك من الرهب}.القصص 32.
وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فاذا هي تتلألأ كالقمر, يعجز البصر عن النظر الى بريقها الجميل, وقد زاد ذلك انفعال موسى عليه السلام, فوضع يده على قلبه كما أمره ربه:{ واضمم اليك جناحك من الرهب}.
وضع يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه وشعر بالطمأنينة, وسكنت أطرافه عن الارتجاف والارتعاش, واستعاد توازنه وأصدر الله عز وجل أمرا بعد أن أراه هاتين المعجزتين بأن يذهب الى فرعون فيدعوه الى الله برفق ولين, فأبدى موسى عليه السلام خوفه وفزعه من فرعون وقال لربه أنه قتل نفسا منهم ويخاف أن يقتلوه. لم يدر موسى عليه السلام أن عصاه هي التي رأى منها المعجزات ستهز بقدرة الله أركان فرعون وملكه كله.
ولذلك ولعدم دراية موسى عليه السلام بما في الغيب طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون عليه السلام.
طمأن الله نبيّه موسى عليه السلام وقال انه سيكون معهما يسمع ويرى, وأن فرعون رغم جبروته وسطوته لن يمسّهما بسوء, وعرّف موسى أنه هو الغالب. وقد روت الآيات الكريمة كل ما ذكرناه في هذا الموقف عن العصا.
قال تعالى:{ هل أتاك حديث موسى * اذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى* فلما أتاها نودي أن ياموسى* اني أنا ربّك فاخلع نعليك انك بالوادي المقدّس طوى* وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى* انني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري* ان الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى* فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردّى* وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى* قال ألقها يا موسى* فألقاها فاذا هي حيّة تسعى* قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى* واضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى} طه 9-22.
3. في قصر فرعون
مضى موسى عليه السلام الى مصر, ثم دخل على الطاغية فرعون, فحدّثه عن الله عز وجل وعن فضله ورحمته ورزقه, وحدّثه عن وجوب توحيده وعبادته, حاول أن يدعوه بطريق ليّنة, خاطب فيها وجدانه, ولكن فرعون تكبّر وتجبّر, وذكّر موسى بأن ربّاه وانتشله من النيل طفلا, وذكّره بمقتل القبطي, ثم سأله عن رب العالمين فقال: انه ربي وربك, وجادل فرعون جدالا كثيرا, والعصا في يد موسى عليه السلام, وبعد أن أنهى موسى كلامه والرد على فرعون, نظر اليه فرعون وقال في تهديد وعيد:{ لئن اتخذت الها غيري لأجعلنّك من المسجونين} الشعراء 29.
عندئذ أدرك موسى أن الحجج لن تفلح والأمور العقلية لن تحرّك في هذا الفرعون المغرور المتكبّر ساكنا, فتحسس موسى عليه السلام العصا التي في يده, وأدرك أن وقت اظهار المعجزة قد جاء وآن أوانه فقال لفرعون:
{ أولو جئتك بشيء مبين} الشعراء 30.
وكان في نبرة موسى عليه السلام تحدّ لفرعون, فقبل فرعون التحدي على الفور وقال: { فأت به ان كنت من الصادقين} الشعراء 31.
عندئذ أمسك موسى بعصاه وألقاها في صالة القصر وسط ذهول فرعون والوزراء الجالسين حوله, الذين ظنوا أن العصا سقطت منه بسبب ارتباكه من طلب فرعون الدليل على صدقه. وفجأة تحوّلت العصا الى ثعبان مبين, ثعبان هائل يتحرّك بسرعة عظيمة, اتجه الثعبان على الفور الى فرعون, شحب وجه فرعون من الخوف وثبت مكانه في البداية, وخرج الناس مذعورين منفضين عن مجلسه, وذعر فرعون ثم وثب عن مكانه, وصاح مستنجدا بموسى عليه السلام.
وقف الجميع على جوانب بوابات القصر ينظرون بذعر ويشهدون ما يفعله موسى, فهز موسى يده الى الثعبان فعاد في يده عصا كما كان.
عاد موسى يكشف أمام الواقفين معجزته الثانية, أدخل يده في جيبه وأخرجها فاذا هي بيضاء كالقمر, فذهل الواقفون فرعون ووزراؤه.
وهكذا استمرّت العصا معجزة من معجزات موسى, ولها مشاهد كثيرة لم تنته بعد.
4. في يوم السحرة
ظن فرعون بعد كل ما حدث معه وشهده بنفسه أن أمر موسى وهارون عليهما السلام ضرب من ضروب السحر, وقال لحاشيته: ان موسى ساحر يعرف علم السحر والسحرة, يريد أن يخرجكم به من أرضكم, فماذا تأمرون؟
وقال العلماء قول ابن عباس وأورده الثعلبي في العرائس:
قال فرعون أيضا لما رأى من سلطان الله تعالى في يد موسى وعصاه: انن أرى أننا لن نغلب موسى وننتصر عليه الا بمن هو مثله, فأخذنا غلمانا من بين اسرائيل يقال لهم "الغرقاء" يعلمونهم السحركما يعلمون الصغار في الكتّاب, فعلموهم سحرا كثيرا, ثم ان فرعون واعد موسى موعدا, وقال له: أنت ساحر يا موسى.. ولقد قررت أن أكشف أمرك أمام الناس جميعا, وبعد أيام قليلة يحضر السحرة.
فقال موسى عليه السلام: ومتى ألتقي بالسحرة؟
قال فرعون: موعدكم يوم الزينة, انه يوم من أيام الربيع يحتفل به الناس جميعا. وسوف يأتي الناس في ضحى هذا اليوم, هذا هو موعدك يا موسى.
فقال موسى عليه السلام: سأخرج مبكرا من بيتي في هذا اليوم.
وبعد هذا اللقاء خرج موسى عليه السلام من قصر فرعون, وركب عدد من الرجال مركباتهم وأسرعوا يتفرقون في مصر كلها: ان على جميع السحرة الماهرين التوجه الى قصر فرعون لأمر هام. واستدعى فرعون نبي الله موسى وحاول تهديده واخافته ولكن موسى ظل على حاله.
وجاء يوم الزينة, واجتمع السحرة الى فرعون فوعدهم بأجر كبير لو غلبوا موسى عليه السلام.
وخرج الناس جماعات جماعات, أطفالا ونسلاء, شبابا وشيوخا, جاؤوا ليشهدوا مباراة هي الأولى من نوعها: مباراة بين سحرة فكلهم يظنون أن موسى عليه السلام ساحرا!!
بدأ الناس بأخذ أماكنهم في الاحتفال منذ الصباح الباكر, ولم يكن أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء بين هؤلاء السحرة, ولم يكن أحد يعرف بمعجزة موسى التي ستخرس كل الألسنة, وستجعل من فرعون وسحرته مثالا للكذب والتجني.
كانت العصا في يد موسى عليه السلام, وتقدّم السحرة خمسة, عشرة, عشرون ساحرا, وموسى يقف وحيدا في ساحة المباراة أو قل ساحة الحرب والصراع بين الحق والباطل, بين الصدق والكذب, بين التواضع وبين الكبر والافتراء, انها معركة بين الكفر والايمان كفر فرعون وسحرته وايمان موسى عليه السلام ومعجزته.
جلس فرعون تحت مظلة واقية من الشمس, ومن حوله جنوده وحاشيته وقادته وهو يرتدي أفخم الثياب المرصّعة بالجواهر, أما موسى عليه السلام فوقف صامتا يذكر الله في نفسه ولا ينظر لشيء حوله.
وتقدّم السحرة الى موسى عليه السلام وسط الجمع الهائل الذين استجمعوا كل حواسهم لرؤية وسماع ما سيحدث.
قال السحرة لموسى:{ امّا أن تلقي وامّا أن نكون أوّل من ألقى}.
قال موسى عليه السلام: بل ألقوا.
فقال السحرة: نحن الغالبون بعزة فرعون.
فقال موسى: ويلكم, لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أليم.
في هذه اللحظة, التفت موسى فاذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى ترفق بأولياء الله, قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاؤوا ينصرون دين فرعون, عاد جبريل يقول: ترفّق بأولياء الله, هم من الساعة الى صلاة العصر عندك.., وبعد صلاة العصر في الجنة.
وهؤلاء السحرة اختلف في عددهم فقال كعب: انهم كانوا اثني عشر ألفا. وقال عالم آخر: بضعة وثلاثين. وقال عكرمة: سبعين ألفا. وقد أجمعت الأقاويل على أن فرعون جمع السحرة وهم سبعون ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس فيهم الا من هو ساحر ماهر, ثم اختار سبعمائة ثم اختار سبعين من كبارهم وعلمائهم, وكان رئيسهم يسمّى شمعون, وقيل يوحنّا وقيل ان أعلم السحرة كانا بأقصى الصعيد وكانا أخوين.
نعود الى ساحة المباراة: لما قال لهم موسى عليه السلام:{ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فتناجى السحرة فيما بينهم, فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر, فذلك قول الله تعالى:{ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى} فقال السحرة:{ فلنأتينّك بسحر مثله}.
رمى السحرة بعصيّهم وحبالهم, فاذا المكان يمتلىء بالثعابين والحيّات التي تجري هنا وهناك فجأة لقد سحروا أعين الناس, واسترهبوهم وأخافوهم وجاؤوا بسحر عظيم, وهلّل المصريون مكان الاحتفال, وابتسم فرعون ابتسامة عريضة وظنّ أنه قضى على موسى عليه السلام.
نظر موسى الى حبالهم وعصيّهم فشعر بالخوف, وكذلك هارون الواقف الى جواره, ولكنه سرعان ما سمع صوتا يقول له:{ لا تخف انك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}.
اطمأن نبي الله موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه, ولم يعد يرتكب أو ترتعش يداه, ثم رفع عصاه وألقاها فجأة.
ولم تكد عصا موسى عليه السلام تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة, فقد تحوّلت الى ثعبان جبار سريع الحركة, وتقدّم هذا الثعبان فجأة نحو حبال السحرة وعصيّهم التي كانت تتحرّك وبدأ بأكلها واحدا بعد آخر.
راحت عصا موسى عليه السلام تأكل حبال السحرة وعصيّهم بسرعة مخيفة.
وفي دقائق معدودات خلت ساحة المباراة تماما من كل حبال السحرة وعصيّهم, لقد اختفت في بطن عصا موسى, ومشى الثعبان الضخم في أدب نحو موسى, ومدّ موسى يده فتحوّل الثعبان الى عصا.
أدرك السحرة أن هذا ليس سحرا, لعلمهم بالسحر وعلومه.
وكانت المفاجأة الكبرى: لقد سجد السحرة جميعا على الأرض وقالوا:{ آمنّا برب العالمين ربّ موسى وهارون}.
انها المعجزة التي تولّد معها الايمان بالله عز وجل.. ولكن لم ينتهي دور العصا بعد.
5. عند البحر
استمر الصراع بين الحق والباطل, وبين موسى عليه السلام وفرعون الكافر, وقرر فرعون ومن معه من الناس قتل موسى وأتباعه, وعلم موسى بذلك فصحب أتباعه ليلا وسار بهم نحو البحر قاصدا بلاد الشام, وعلم فرعون بذلك فحشد جيشا ضخما, وتحرّك جيش فرعون في أبّهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى.
ومضى الجيش مسرعا يثير غبارا شديدا وموسى ينظر خلفه فيرى غبار الجيش يطارده, فامتلأ قوم موسى رعبا, وكان الموقف حرجا وخطيرا, فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ولا مكان للهرب, ولا توجد لديهم القدرة على القتال والحرب, وقالت النسوة وبعض الرجال: سيدركنا فرعون بجيشه.. سيهلكنا جميعا, ولكن موسى عليه السلام قال:كلا.. ان معي ربي سيهدين.
تحسّس موسى عصاه مطمئنا.. طوّحها في الهواء وضرب بها البحر فانفلق الى جزئين, كل منهما كالطود العظيم, وتقدّم موسى في الطريق الجديد وسط البحر وتبعه فرعون.
وانتهى موسى من عبور البحر, فنظر وراءه وأراد أن يضرب بعصاه ولكن الله أوحى اليه بأن يترك البحر على حاله وينتظر حتى يدخل كل جنود الكفر في الطريق وسط البحر:{ واترك البحر رهوا, انهم جند مغرقون}. الدخان 24.
ولما أذن الله تعالى, ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه ثانية, فعاد البحر كسالف عهده, وانهالت الأمواج على فرعون وجنوده, ولما أدرك الغرق فرعون قال:{ آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين}. يونس 90.
ولكن الله لم يقبل توبته لأنها جاءت متأخرة, فقد عاث في الأرض فسادا وكبرا, فكان من المغرقين.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
صدق الله العظيم