هذي معلومات عن السفسطائيون
السفسطائيون
في الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس، ظهرت جماعة من الناس كانت بمعنى ما على هامش الفلسفة، هؤلاء هم الذي يُطلق عليهم عادة اسم (السفسطائيين) الذين يشير إليهم سقراط بازدراء، بوصفهم أولئك الذين يجعلون الحجة الأضعف وكأنها هي الأقوى.
كيف ظهرت هذه الحركة وما هي وظيفتها في المجتمع اليوناني:
لم تبلغ الصلة الوثيقة بين الفلسفة وبين المجتمع في اليونان عند مذهب فلسفي كما بلغت لدى السوفسطائية لأنها حركة أظهرتها الظروف السياسية والاجتماعية في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ سخر السوفسطائيون الفلسفة للخدمة العامة ولم يروا فيها رأي الأولين من نظر مجرد في الوجود.
لقد وصف شيشرون سقراط بأنه أنزل الفلسفة من السماء وأودعها المدن وأدخلها البيوت وجعلها ضرورية لكل بحث في الحياة والأخلاق، وتلك العبارة تصدق تماماً على السوفسطائيين، لأن سقراط يختلف معهم مذهباً ولكنه لا يختلف معهم في موضوع الفلسفة (الانسان والأخلاق والحياة).
كان الفكر الفلسفي قبل ظهور السفسطائيين متجهاً نحو العالم الخارجي مستغرقاً فيه، فجاء السفسطائيون واتخذوا الانسان وحضارته موضوعاً لهم، وشغلوا بجزئيات الحياة فكان منهجهم واقعياً تجريبياً. بينما شغل الفلاسفة السابقون بالوجود الخارجي ومشكلاته وانتهجوا منهج تأملي جدلي من أجل وضع مبادئ عامة لتفسير الوجود.
فغاية السوفسطائيين كانت عملية إذ يلقنون تلاميذهم ما يعينهم على الحياة. ولا سيما أن الديمقراطية الأثينية قد أوصلت إلى الزعامة أناساً أميين، وزادت القضايا أمام المحاكم وشاع الجدل القانوني والسياسي فنشأت الحاجة إلى تعليم الخطابة وأساليب الجدل واستمالة الجماهير ومن ثم إلى معلمي خطابة أو بلاغة أو بيان أو أي موضوع يتعلق بمشكلات الحياة العامة.
لذا فقد كان ظهور السفسطائيين تلبية لحاجة فكرية في المجتمع الاغريقي بعامة والأثيني بخاصة في القرن الخامس قبل الميلاد.
النواحي الإيجابية للسفسطائية:
كان السوفسطائيون ممثلي عصرهم بما فيه من تغير وصراع: القديم بقيمه وتقاليده، والجديد بآماله وأفكاره فكانوا أساتذو الجيل، غرسوا الشك بدلاً عن العقائدية الدجماطيقية ( أي النزعة التأكيدية أو القطعية بزعم الفيلسوف أو مذهبه هو الحق وأن سائر المذاهب خطأ) وكانوا معبرين عن روح حضارتهم في عصرهم تماماً كفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فحل التسامح في قبول الرأي ونقيضه عن الحقيقة الموضوعية المطلقة.
مثال عن أحد فلاسفتهم:
يقول جورجياس صاحب القضايا المتعارضة : ما من دليل إلا وينهض مقابله دليل، وجعل هذا القول براعة السفسطائي تقاس بمقدرته على تدعيم أوهى الدعاوي.
سبب سوء سمعتهم:
يعد أفلاطون وأرسطو مسؤولين عن الفكرة السيئة التي شاعت عنهم، أنهم بائعو سلع عقلية لأنهم يتلقون أجراً على دروسهم، أو أنهم أدعياء الحكمة أو منتحلوها.
وإن كانت الفلسفة الحقة تدين الشك الهدمي ذلك أن الحكمة الأصلية لا تهدف إلا إلى تحري الحقيقة ذاتها، فإن الحياة العملية تقتضي أسلوب السوفسطائيين ولا يُعنى بذلك أن يسعى المتقاضي إلى كسب دعواه حقاً كان أم باطلاً أو إلى إثارة الشك في القيم، حقيقة كان مما يؤخذ عليهم أن ألبسوا الباطل ثوب الحق كما كانوا يطفئون الجد في الجدل بالهزل ويضيعون متعة الهزل باصطناع الجد، ومع ذلك كله فإن علماً كالتأريخ قد أفاد من منهج السوفسطائيين.
الآثار الإيجابية للسوفسطائية:
1- أول من نبه إلى قيمة التربية وأهميتها في إرشاد النشئ، لقد كان الاثينيون يعتقدون أن الأخلاق ميل طبيعي ولكن بروتاغوراس أكد امكان ترويض النفس البشرية ونزع نزعات الشر كما يمكن للطبيب علاج أمراض الجسم وإن العقاب يقصد به الردع لا الإنتقام.
2- لفتوا النظر إلى أهمية اللغة في الجدل وضرورة تحري دقة الألفاظ.
3- حددوا بعض موضوعات علوم السياسة والاجتماع والتاريخ، هل الدولة أو المجتمع نظام طبيعي تلقائي أم وضعي تحكمي؟
4- كانت الحافز وراء ظهور أكبر المدارس الفلسفية في بلاد اليونان، فإن كثيراً من نظرياتهم لا سيما في الأخلاق والسياسة إنما جاءت ردوداً على آراء السوفسطائيين.
....................
عن سقراط
مهنته كانت "قابلة" أفكار :
يبدو أن هذا الفيلسوف قد ورث عن أمه مهنة التوليد، فكما كانت أمه تولد البشر، كان هو يولد الأفكار من العقول الحوامل، إذ طفق يتحرى حقيقة ذلك باحثاً عن العلم أو الحكمة لدى الشعراء والخطباء والسياسيين وأصحاب الحرف، فكان في بحثه هذا مولداً للأفكار.
بين التنظير والممارسة الفعلية للفلسفة
إن ماخلد ذكر سقراط أنه كان يحث مواطنيه على الفضيلة ويرشدهم إلى الخير ويستحثهم على ذلك كما تستحث النحلة الفرس على الحركة على حد تعبيره.
لذلك كانت شخصيته أبعد تأثيراً في نفوس تلاميذه من دورسه النظرية، حيث يطغى الجانب العملي على الجانب النظري. فقد كانت محاوراته تدور حول موضوعات أخلاقية وثيقة الصلة بالحياة العملية ولهذا فإن المدارس السقراطية التي ظهرت بعده أخذت تعنى بالعمل على حساب العلم.
لا أعرف سوى شيء واحد هو أني لا أعرف!
لم يكن لسقراط مذهباً فلسفياً واضحاً ولكن كان هذا منهجه. ولم يخلف لنا فكراً بقدر ما قدم لنا منهجاً للتفلسف.
كان يتبع مرحلتين، مرحلة سلبية يتصنع فيها الجهل ويلقي الأسئلة على محاوريه مدعياً طلب التعليم منهم، وما زال في أسئلته في تركيب محكم تخفي سخرية لاذعة وراء سذاجة مقصودة مستخدماً كثيراً من التشبيهات والأمثلة من الواقع المحسوس مما يضفي على الحوار صورة حية تمكن الحاضرين من متابعة المناقشة دون أن يدع للمتحاور معه فرصة أن ينحرف عن الموضوع حتى يوقعه في الحيرة والتناقض، وهو يتبع ذلك غالباً مع أدعياء العلم والحكمة، ذلك جانب التهكم.
وفي المرحلة الثانية وهي مرحلة إيجابية تسمى (التوليد) يساعد سقراط محاوره على الوصول إلى الحقيقة بنفسه، ولا يفرض سقراط رأيه في الموضوع الذي أثاره والذي انتقد فيه رأي من يحاوره.
قيمة هذا المنهج وهو أهم ما قدمه سقراط للفلسفة أنه أول من طلب الحد الكلي بالاستقراء، إذ يقوم العلم على دعامتين يكتسب الحد بالاستقراء ويركب القياس بالحد، وقد ميز سقراط بين موضوع العقل وبين موضوع الحس وذلك بما بينه من أهمية تحديد الألفاظ تحديداً دقيقاً حتى تتفق عليها فيمتنع الخطأ والالتباس، وذلك ينبه إلى أهمية طلب ماهية الشيء.
كان اذا تحدث الناس عن العدالة المتعارفة، يسألهم بهدوء، ما هي هذه العدالة؟ وماذا تعنون بهذه الكلمات المجردة التي تحلون بها بمثل هذه السهولة مشاكل الحياة والموت؟ وماذا تعنون بكلمة الشرف، والفضيلة، والأخلاق والوطنية؟ وماذا تعني بنفسك؟ لقد أحب سقراط أن يتناول بالبحث والسؤال مثل هذه الأسئلة الأخلاقية والنفسانية.
وقد اعترض البعض على طريقته هذه، وقالوا له أنه يسأل أكثر مما يجب، ويترك عقول الرجال أكثر اضطراباً مما كانت عليه قبل المحاورة والنقاش أو الحديث، ومع ذلك فقد قدم إلى الفلسفة جوابين ثابتين لسؤالين من أكثر مشاكلنا تعقيداً، ومما ما هو معنى الفضيلة؟ وما هي أفضل دولة؟.
شهيد الفلسفة
قد تكون مسألة إعدام سقراط هي التي أضفت عليه تلك الهالة من القداسة في نفوس المثقفين بعامة ودارسي الفلسفة بخاصة على مر العصور، والصورة قدمها لنا أخلص تلاميذه أفلاطون، وهي بقدر ما تضفي من قداسة على سقراط بوصفه شهيد الكلمة وحرية الرأي بقدر ما يشير أصبع الاتهام إلى أثينا ونظامها الديمقراطي، ولا شك أن أثينا قد أخطأت في حق نفسها بقدر ما أجرمت في حق سقراط حين أعدمته.
لقد كان المواطنون الاثينيون الكبار في السن على استعداد لتشريفه لو حاول استعادة الدين القديم الذي يؤمن بتعدد الآلهة، ولو أنه دعا الشباب المتحرر من الخرافات والأساطير القديمة إلى المعابد والحدائق المقدسة. وطلب منهم مرة ثانية تقديم الأضاحي لآلهة آبائهم. ولكنه اعتقد أن تلك سياسة انتحارية لا أمل فيها وأنها تقدم إلى الوراء. لقد كان له ايمانه الخاص به، لقد آمن بإله واحد، وآمن باعتدال أن الموت سوف لا يقضي عليه تماماً، أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا في ذلك الوقت. وإذا كان الانسان يقدر على بناء نظام من الأخلاق مستقل تماماً عن المبادئ الدينية، ويطبق على الملحد والقسيس على السواء، عندئذ قد تأتي الديانة وتروح من غير أن تحل الاسمنت الأخلاقي الذي يجعل من الأفراد مواطنين مسالمين في المجتمع.
أعدموه لأنه كشف لهم جهلهم.. لأنه سخر من حكومة ديمقراطية يحل العدد فيها محل الحكمة ويرأسها الجاهل لا الحكيم..
سجل تلميذه أفلاطون لحظات موته في نثر أشد روعة من الشعر وهو الدفاع البسيط الذي أعلن فيه أول شهيد للفلسفة حقوق الانسان، وضرورة حرية الأفكار..
السفسطائيون
في الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس، ظهرت جماعة من الناس كانت بمعنى ما على هامش الفلسفة، هؤلاء هم الذي يُطلق عليهم عادة اسم (السفسطائيين) الذين يشير إليهم سقراط بازدراء، بوصفهم أولئك الذين يجعلون الحجة الأضعف وكأنها هي الأقوى.
كيف ظهرت هذه الحركة وما هي وظيفتها في المجتمع اليوناني:
لم تبلغ الصلة الوثيقة بين الفلسفة وبين المجتمع في اليونان عند مذهب فلسفي كما بلغت لدى السوفسطائية لأنها حركة أظهرتها الظروف السياسية والاجتماعية في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ سخر السوفسطائيون الفلسفة للخدمة العامة ولم يروا فيها رأي الأولين من نظر مجرد في الوجود.
لقد وصف شيشرون سقراط بأنه أنزل الفلسفة من السماء وأودعها المدن وأدخلها البيوت وجعلها ضرورية لكل بحث في الحياة والأخلاق، وتلك العبارة تصدق تماماً على السوفسطائيين، لأن سقراط يختلف معهم مذهباً ولكنه لا يختلف معهم في موضوع الفلسفة (الانسان والأخلاق والحياة).
كان الفكر الفلسفي قبل ظهور السفسطائيين متجهاً نحو العالم الخارجي مستغرقاً فيه، فجاء السفسطائيون واتخذوا الانسان وحضارته موضوعاً لهم، وشغلوا بجزئيات الحياة فكان منهجهم واقعياً تجريبياً. بينما شغل الفلاسفة السابقون بالوجود الخارجي ومشكلاته وانتهجوا منهج تأملي جدلي من أجل وضع مبادئ عامة لتفسير الوجود.
فغاية السوفسطائيين كانت عملية إذ يلقنون تلاميذهم ما يعينهم على الحياة. ولا سيما أن الديمقراطية الأثينية قد أوصلت إلى الزعامة أناساً أميين، وزادت القضايا أمام المحاكم وشاع الجدل القانوني والسياسي فنشأت الحاجة إلى تعليم الخطابة وأساليب الجدل واستمالة الجماهير ومن ثم إلى معلمي خطابة أو بلاغة أو بيان أو أي موضوع يتعلق بمشكلات الحياة العامة.
لذا فقد كان ظهور السفسطائيين تلبية لحاجة فكرية في المجتمع الاغريقي بعامة والأثيني بخاصة في القرن الخامس قبل الميلاد.
النواحي الإيجابية للسفسطائية:
كان السوفسطائيون ممثلي عصرهم بما فيه من تغير وصراع: القديم بقيمه وتقاليده، والجديد بآماله وأفكاره فكانوا أساتذو الجيل، غرسوا الشك بدلاً عن العقائدية الدجماطيقية ( أي النزعة التأكيدية أو القطعية بزعم الفيلسوف أو مذهبه هو الحق وأن سائر المذاهب خطأ) وكانوا معبرين عن روح حضارتهم في عصرهم تماماً كفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فحل التسامح في قبول الرأي ونقيضه عن الحقيقة الموضوعية المطلقة.
مثال عن أحد فلاسفتهم:
يقول جورجياس صاحب القضايا المتعارضة : ما من دليل إلا وينهض مقابله دليل، وجعل هذا القول براعة السفسطائي تقاس بمقدرته على تدعيم أوهى الدعاوي.
سبب سوء سمعتهم:
يعد أفلاطون وأرسطو مسؤولين عن الفكرة السيئة التي شاعت عنهم، أنهم بائعو سلع عقلية لأنهم يتلقون أجراً على دروسهم، أو أنهم أدعياء الحكمة أو منتحلوها.
وإن كانت الفلسفة الحقة تدين الشك الهدمي ذلك أن الحكمة الأصلية لا تهدف إلا إلى تحري الحقيقة ذاتها، فإن الحياة العملية تقتضي أسلوب السوفسطائيين ولا يُعنى بذلك أن يسعى المتقاضي إلى كسب دعواه حقاً كان أم باطلاً أو إلى إثارة الشك في القيم، حقيقة كان مما يؤخذ عليهم أن ألبسوا الباطل ثوب الحق كما كانوا يطفئون الجد في الجدل بالهزل ويضيعون متعة الهزل باصطناع الجد، ومع ذلك كله فإن علماً كالتأريخ قد أفاد من منهج السوفسطائيين.
الآثار الإيجابية للسوفسطائية:
1- أول من نبه إلى قيمة التربية وأهميتها في إرشاد النشئ، لقد كان الاثينيون يعتقدون أن الأخلاق ميل طبيعي ولكن بروتاغوراس أكد امكان ترويض النفس البشرية ونزع نزعات الشر كما يمكن للطبيب علاج أمراض الجسم وإن العقاب يقصد به الردع لا الإنتقام.
2- لفتوا النظر إلى أهمية اللغة في الجدل وضرورة تحري دقة الألفاظ.
3- حددوا بعض موضوعات علوم السياسة والاجتماع والتاريخ، هل الدولة أو المجتمع نظام طبيعي تلقائي أم وضعي تحكمي؟
4- كانت الحافز وراء ظهور أكبر المدارس الفلسفية في بلاد اليونان، فإن كثيراً من نظرياتهم لا سيما في الأخلاق والسياسة إنما جاءت ردوداً على آراء السوفسطائيين.
....................
عن سقراط
مهنته كانت "قابلة" أفكار :
يبدو أن هذا الفيلسوف قد ورث عن أمه مهنة التوليد، فكما كانت أمه تولد البشر، كان هو يولد الأفكار من العقول الحوامل، إذ طفق يتحرى حقيقة ذلك باحثاً عن العلم أو الحكمة لدى الشعراء والخطباء والسياسيين وأصحاب الحرف، فكان في بحثه هذا مولداً للأفكار.
بين التنظير والممارسة الفعلية للفلسفة
إن ماخلد ذكر سقراط أنه كان يحث مواطنيه على الفضيلة ويرشدهم إلى الخير ويستحثهم على ذلك كما تستحث النحلة الفرس على الحركة على حد تعبيره.
لذلك كانت شخصيته أبعد تأثيراً في نفوس تلاميذه من دورسه النظرية، حيث يطغى الجانب العملي على الجانب النظري. فقد كانت محاوراته تدور حول موضوعات أخلاقية وثيقة الصلة بالحياة العملية ولهذا فإن المدارس السقراطية التي ظهرت بعده أخذت تعنى بالعمل على حساب العلم.
لا أعرف سوى شيء واحد هو أني لا أعرف!
لم يكن لسقراط مذهباً فلسفياً واضحاً ولكن كان هذا منهجه. ولم يخلف لنا فكراً بقدر ما قدم لنا منهجاً للتفلسف.
كان يتبع مرحلتين، مرحلة سلبية يتصنع فيها الجهل ويلقي الأسئلة على محاوريه مدعياً طلب التعليم منهم، وما زال في أسئلته في تركيب محكم تخفي سخرية لاذعة وراء سذاجة مقصودة مستخدماً كثيراً من التشبيهات والأمثلة من الواقع المحسوس مما يضفي على الحوار صورة حية تمكن الحاضرين من متابعة المناقشة دون أن يدع للمتحاور معه فرصة أن ينحرف عن الموضوع حتى يوقعه في الحيرة والتناقض، وهو يتبع ذلك غالباً مع أدعياء العلم والحكمة، ذلك جانب التهكم.
وفي المرحلة الثانية وهي مرحلة إيجابية تسمى (التوليد) يساعد سقراط محاوره على الوصول إلى الحقيقة بنفسه، ولا يفرض سقراط رأيه في الموضوع الذي أثاره والذي انتقد فيه رأي من يحاوره.
قيمة هذا المنهج وهو أهم ما قدمه سقراط للفلسفة أنه أول من طلب الحد الكلي بالاستقراء، إذ يقوم العلم على دعامتين يكتسب الحد بالاستقراء ويركب القياس بالحد، وقد ميز سقراط بين موضوع العقل وبين موضوع الحس وذلك بما بينه من أهمية تحديد الألفاظ تحديداً دقيقاً حتى تتفق عليها فيمتنع الخطأ والالتباس، وذلك ينبه إلى أهمية طلب ماهية الشيء.
كان اذا تحدث الناس عن العدالة المتعارفة، يسألهم بهدوء، ما هي هذه العدالة؟ وماذا تعنون بهذه الكلمات المجردة التي تحلون بها بمثل هذه السهولة مشاكل الحياة والموت؟ وماذا تعنون بكلمة الشرف، والفضيلة، والأخلاق والوطنية؟ وماذا تعني بنفسك؟ لقد أحب سقراط أن يتناول بالبحث والسؤال مثل هذه الأسئلة الأخلاقية والنفسانية.
وقد اعترض البعض على طريقته هذه، وقالوا له أنه يسأل أكثر مما يجب، ويترك عقول الرجال أكثر اضطراباً مما كانت عليه قبل المحاورة والنقاش أو الحديث، ومع ذلك فقد قدم إلى الفلسفة جوابين ثابتين لسؤالين من أكثر مشاكلنا تعقيداً، ومما ما هو معنى الفضيلة؟ وما هي أفضل دولة؟.
شهيد الفلسفة
قد تكون مسألة إعدام سقراط هي التي أضفت عليه تلك الهالة من القداسة في نفوس المثقفين بعامة ودارسي الفلسفة بخاصة على مر العصور، والصورة قدمها لنا أخلص تلاميذه أفلاطون، وهي بقدر ما تضفي من قداسة على سقراط بوصفه شهيد الكلمة وحرية الرأي بقدر ما يشير أصبع الاتهام إلى أثينا ونظامها الديمقراطي، ولا شك أن أثينا قد أخطأت في حق نفسها بقدر ما أجرمت في حق سقراط حين أعدمته.
لقد كان المواطنون الاثينيون الكبار في السن على استعداد لتشريفه لو حاول استعادة الدين القديم الذي يؤمن بتعدد الآلهة، ولو أنه دعا الشباب المتحرر من الخرافات والأساطير القديمة إلى المعابد والحدائق المقدسة. وطلب منهم مرة ثانية تقديم الأضاحي لآلهة آبائهم. ولكنه اعتقد أن تلك سياسة انتحارية لا أمل فيها وأنها تقدم إلى الوراء. لقد كان له ايمانه الخاص به، لقد آمن بإله واحد، وآمن باعتدال أن الموت سوف لا يقضي عليه تماماً، أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا في ذلك الوقت. وإذا كان الانسان يقدر على بناء نظام من الأخلاق مستقل تماماً عن المبادئ الدينية، ويطبق على الملحد والقسيس على السواء، عندئذ قد تأتي الديانة وتروح من غير أن تحل الاسمنت الأخلاقي الذي يجعل من الأفراد مواطنين مسالمين في المجتمع.
أعدموه لأنه كشف لهم جهلهم.. لأنه سخر من حكومة ديمقراطية يحل العدد فيها محل الحكمة ويرأسها الجاهل لا الحكيم..
سجل تلميذه أفلاطون لحظات موته في نثر أشد روعة من الشعر وهو الدفاع البسيط الذي أعلن فيه أول شهيد للفلسفة حقوق الانسان، وضرورة حرية الأفكار..