والمقصود من ذلك مخالفة حروف الروي ، بحيث تبدأ القصيدة ، على روي ينتقل الشاعر منه إلى غيره من الحروف ، وليس هذا الاختلاف بمعيب أبدا بل منه المقبول ومنه المردود.
وقد زعم الكثير من النقاد ، أن عدم وجود شعر الملاحم في الشعر العربي مرده إلى العسر الذي يقتضيه التزام قافية واحدة ، ولو قد أتيح للشعراء نظام يعفيهم من التزام قافية واحدة لكانت لنا ملاحم عربية ، تناصى الملاحم اليونانية وهذا قول يحتاج إلى تمحيص ، وليس موضوعنا الخوض فيه .
على أنا قد عهدنا نوعا من الرجز في القنص والطرد ، لا يتحلل فيه الرجاز من القوافي ، بل على العكس من ذلك يلتزمون القافية في كل شطر حتى ليحتسب الشطر الواحد بيتا كاملا .
وهذا عندي من أقرب الشعر العربي إلى روح الملاحم .
والخروج على التقفية ليس له نظام واحد ، بل له طرق لا تكاد تنحصر ونحن نكتفي بالأنواع الآتية :
المزدوج : وفيه تغير القافية مع كل بيت ، بيد أن كل بيت يجرى عليه التصريع، فيكون للشطر الأول ما للشطر الثاني من قافية ، وأكثر ما ينظم به الحكم والأمثال ، وحكايات الأطفال ، كقول شوقي بعنوان : أنت وأنا .
يحكون أن رجلا كرديا كان عظيم الجسم همشريا
وكان يلقى الرعب في القلوب ويكثر السلاح في الجيوب
ويفزع اليهود والنصارى ويرعب الكبار والصغارا
وكلما مر هناك وهنا يصبح بالناس أنا ، أنا ، أنا
نمى حديثه إلى صبى صغير جسم بطل قوى
لا يعرف الناس له الفتوة وليس ممن يدعون القوة
فقال للقوم سأدريكم به فتعلمون صدقه من كذبه
وسار نحو الهمشرى في عجل والناس مما سيكون في وجل
ومد نحوه يمينا قاسية بضربة كادت تكون القاضية
فلم يحرك ساكنا ولا ارتبك ولا انتهى من زعمه ولا ترك
وقال للغالب قولا لينا الآن صرنا اثنين : أنت وأنا
المنشطر : وطريقه أن ينظر إلى المشطور فيكون شطران ذوى قافية وشطر ثالث مخالف عليهما في قافيته ، ثم إن هذه القافية تتكرر في الشطر الثالث ليس غير من كل مجموعة عدتها ثلاثة أشطر ، نرى ذلك في قول العقاد :
أذن الشفاء فماله لم يــحمد ودنا الرجاء وما الرجاء بمسعدى
أغدوت أم شارفت غاية مقصدي
برد الغليل اليوم وانطفأ الجوى وسلا الفؤاد فلا لـقاء ولا نوى
وتبـدد الشملان أي تبــدد
وأشيع من المربع بصنفيه المخمس ، وله أنظمة كثر ، نوع ساذج تقسم به المقطوعات إلى مجموعات ، كل مجموعة خمسة أشطر ، ذات قافية متحدة .
كقول إلياس فرحات من قصيدته (بين الطفولة والشباب ) :
ظلمتني ظلمتــني يا دهر ماذا تشاء هل لك عندي ثأر
كأن دمعي فوق خدي نـثر كأن صدري من سقامي شعر
وكل ضلع من ضلوعي شطر
قد صرت من حزني وامتعاضي كالهيكل الهاوي إلى الأرياض
إن أذكر العهد اللذيذ الماضي يختلط السواد بالبـياض
وتمطر العين على الأنقاض
ونوع أكثر أناقة ، استحلاه الشعراء المحدثون فأكثروا منه ، ويقوم على خمسة أشطر ، أربعة منها ذوات قافية متحدة ، والأخير له قافية مستقلة غير أنها تلتزم في كل خامس ، كقول أبي ماضي في قصيدته ( يا بلادي ) :
مثلما يمكن اللظى في الـرماد هكذا الحب كامن في فؤادي
لست مغرى بشادن أو شادي أنا صب متيـــم ببلادي
يا بلادي عليك ألف تحية
هو حب لا ينتهي والمنـــية لا ولا يضمحل والأمنــية
كان قبلي وقبل نفسي الشجية كان من قبل في حشي الأزلية
وسيبقى مادامت الأبدية
… وهكذا
المسمط : وفيه تتكرر قافيتان أو أكثر بعد كل عدد من الأبيات ويمكن أن يندرج فيه الموشح ، ومنه قصيدة أبي ماضي ( في الليل ) قال :
جلست وقد رقد الغافلون أفكـر في أمسـنا والغـد
وكيف استبد بنا الظالمـون وجاروا على الشيخ والأمرد
فخلت اللواعج بين الجفون وأن جهــنم في مرقــدي
فأرسلت العين مدرارها
وضاق الفؤاد بما يكتم
ذكرت الحروب وويلاتها وما صنع السيف والمدفع
وكيف تجور على ذاتـها شعوب لها الرتبة الأرفع
وتخضب بالدم راياتـها وكانت تذم الذي تصنع
فباتت لما شيدت تهدم
صروح العلوم وأسوارها
… وهكذا
وربما خرجت القصائد عن هذه الحدود ، وسلكت ضروبا أخرى يسيرة أو معقدة ، فأما اليسيرة ، فمنها قول الشاعر على محمود طه :
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ومازلت غارقا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفكر وللسهد ذابـلات جفونك
ويد تمسك الــيراع وأخرى في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم نابـض به حـر أنفاسك يطـغى على ضعيف أنينك
لست تصغى لقاصف الرعد في الليل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمت ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب يهفو عليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل تبكى الحياة في الأرماق
… وهكذا
أما المعقدة : مثل قول فوزي المعلوف في ملحمته ( على بساط الريح ) :
في عباب الفضاء فوق غيومه
فوق نسره
ونجمته
حيث بث الهوى بثغر نسيمه
كل عطره
ورقته
مواطن الشاعر الملحق منذ البدء لكن بروحه لا بجسمه
أنزلته فيه عروس قوافيه بعيدا عن الوجود وظلمه
ملك قبة السماء له قصر وقلب الأثير مسرح حكمه
ضارب في الفضاء موكبه النور وأتباعه عرائس حلمه
ولا تظنن أن هذا التنوع في تركيب القوالب الموسيقية وتنظيمها حديث ، فإن التوشيح في زمن ازدهاره قد عولج فيه مثل هذا أو أشد .
وهذه مقطوعة لابن سناء الملك ، تريك هذا الافتنان الذي يكاد يخرج بك من حدود الشعر إلى حدود الرقص :
شمس المحيا أم القمر
أم بارق الثغر يا بشر
أم إليها حفه الخفر
بطرز خديك مستطر
قم تباهى بما تناهى ولا تلاهى
فكل أحبابنا حضر العود يشجيك والوتر
أفديك بالسمع والبصر
يا أهيفا وصله وطر
بدر بدا في دجى الشعر
قد لذ في حبه السهر
إذا تجلى وقد تخلى عليك يجلى
تحار في وصفه الفكر والعقل والسمع والنظر
وهي إلى معاني الرفث أقرب ، وتسعرها هذه الأوزان التي تهز الأعطاف قسرا ، وبعد … فلعلك اطمأننت إلى أن تنوع القوافي ، كتنوع الأوزان لا حدود له والمقبول منه ما أعان على الغرض . ولم يورث السمع استكراها والموسيقا نشازا.
والله ولى التوفيق ؛؛
تم بحمده الله وتوفيقه والله نسأل أن ينفع به وأن يجزينا عنه خير الجزاء إنه سميع مجيب الدعاء .
تمت مراجعة هذه الطبعة وضبطها بمعرفة
فضلية المستشار / محمد أمين المنزلاوى
وقد زعم الكثير من النقاد ، أن عدم وجود شعر الملاحم في الشعر العربي مرده إلى العسر الذي يقتضيه التزام قافية واحدة ، ولو قد أتيح للشعراء نظام يعفيهم من التزام قافية واحدة لكانت لنا ملاحم عربية ، تناصى الملاحم اليونانية وهذا قول يحتاج إلى تمحيص ، وليس موضوعنا الخوض فيه .
على أنا قد عهدنا نوعا من الرجز في القنص والطرد ، لا يتحلل فيه الرجاز من القوافي ، بل على العكس من ذلك يلتزمون القافية في كل شطر حتى ليحتسب الشطر الواحد بيتا كاملا .
وهذا عندي من أقرب الشعر العربي إلى روح الملاحم .
والخروج على التقفية ليس له نظام واحد ، بل له طرق لا تكاد تنحصر ونحن نكتفي بالأنواع الآتية :
المزدوج : وفيه تغير القافية مع كل بيت ، بيد أن كل بيت يجرى عليه التصريع، فيكون للشطر الأول ما للشطر الثاني من قافية ، وأكثر ما ينظم به الحكم والأمثال ، وحكايات الأطفال ، كقول شوقي بعنوان : أنت وأنا .
يحكون أن رجلا كرديا كان عظيم الجسم همشريا
وكان يلقى الرعب في القلوب ويكثر السلاح في الجيوب
ويفزع اليهود والنصارى ويرعب الكبار والصغارا
وكلما مر هناك وهنا يصبح بالناس أنا ، أنا ، أنا
نمى حديثه إلى صبى صغير جسم بطل قوى
لا يعرف الناس له الفتوة وليس ممن يدعون القوة
فقال للقوم سأدريكم به فتعلمون صدقه من كذبه
وسار نحو الهمشرى في عجل والناس مما سيكون في وجل
ومد نحوه يمينا قاسية بضربة كادت تكون القاضية
فلم يحرك ساكنا ولا ارتبك ولا انتهى من زعمه ولا ترك
وقال للغالب قولا لينا الآن صرنا اثنين : أنت وأنا
المنشطر : وطريقه أن ينظر إلى المشطور فيكون شطران ذوى قافية وشطر ثالث مخالف عليهما في قافيته ، ثم إن هذه القافية تتكرر في الشطر الثالث ليس غير من كل مجموعة عدتها ثلاثة أشطر ، نرى ذلك في قول العقاد :
أذن الشفاء فماله لم يــحمد ودنا الرجاء وما الرجاء بمسعدى
أغدوت أم شارفت غاية مقصدي
برد الغليل اليوم وانطفأ الجوى وسلا الفؤاد فلا لـقاء ولا نوى
وتبـدد الشملان أي تبــدد
وأشيع من المربع بصنفيه المخمس ، وله أنظمة كثر ، نوع ساذج تقسم به المقطوعات إلى مجموعات ، كل مجموعة خمسة أشطر ، ذات قافية متحدة .
كقول إلياس فرحات من قصيدته (بين الطفولة والشباب ) :
ظلمتني ظلمتــني يا دهر ماذا تشاء هل لك عندي ثأر
كأن دمعي فوق خدي نـثر كأن صدري من سقامي شعر
وكل ضلع من ضلوعي شطر
قد صرت من حزني وامتعاضي كالهيكل الهاوي إلى الأرياض
إن أذكر العهد اللذيذ الماضي يختلط السواد بالبـياض
وتمطر العين على الأنقاض
ونوع أكثر أناقة ، استحلاه الشعراء المحدثون فأكثروا منه ، ويقوم على خمسة أشطر ، أربعة منها ذوات قافية متحدة ، والأخير له قافية مستقلة غير أنها تلتزم في كل خامس ، كقول أبي ماضي في قصيدته ( يا بلادي ) :
مثلما يمكن اللظى في الـرماد هكذا الحب كامن في فؤادي
لست مغرى بشادن أو شادي أنا صب متيـــم ببلادي
يا بلادي عليك ألف تحية
هو حب لا ينتهي والمنـــية لا ولا يضمحل والأمنــية
كان قبلي وقبل نفسي الشجية كان من قبل في حشي الأزلية
وسيبقى مادامت الأبدية
… وهكذا
المسمط : وفيه تتكرر قافيتان أو أكثر بعد كل عدد من الأبيات ويمكن أن يندرج فيه الموشح ، ومنه قصيدة أبي ماضي ( في الليل ) قال :
جلست وقد رقد الغافلون أفكـر في أمسـنا والغـد
وكيف استبد بنا الظالمـون وجاروا على الشيخ والأمرد
فخلت اللواعج بين الجفون وأن جهــنم في مرقــدي
فأرسلت العين مدرارها
وضاق الفؤاد بما يكتم
ذكرت الحروب وويلاتها وما صنع السيف والمدفع
وكيف تجور على ذاتـها شعوب لها الرتبة الأرفع
وتخضب بالدم راياتـها وكانت تذم الذي تصنع
فباتت لما شيدت تهدم
صروح العلوم وأسوارها
… وهكذا
وربما خرجت القصائد عن هذه الحدود ، وسلكت ضروبا أخرى يسيرة أو معقدة ، فأما اليسيرة ، فمنها قول الشاعر على محمود طه :
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ومازلت غارقا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفكر وللسهد ذابـلات جفونك
ويد تمسك الــيراع وأخرى في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم نابـض به حـر أنفاسك يطـغى على ضعيف أنينك
لست تصغى لقاصف الرعد في الليل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمت ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب يهفو عليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل تبكى الحياة في الأرماق
… وهكذا
أما المعقدة : مثل قول فوزي المعلوف في ملحمته ( على بساط الريح ) :
في عباب الفضاء فوق غيومه
فوق نسره
ونجمته
حيث بث الهوى بثغر نسيمه
كل عطره
ورقته
مواطن الشاعر الملحق منذ البدء لكن بروحه لا بجسمه
أنزلته فيه عروس قوافيه بعيدا عن الوجود وظلمه
ملك قبة السماء له قصر وقلب الأثير مسرح حكمه
ضارب في الفضاء موكبه النور وأتباعه عرائس حلمه
ولا تظنن أن هذا التنوع في تركيب القوالب الموسيقية وتنظيمها حديث ، فإن التوشيح في زمن ازدهاره قد عولج فيه مثل هذا أو أشد .
وهذه مقطوعة لابن سناء الملك ، تريك هذا الافتنان الذي يكاد يخرج بك من حدود الشعر إلى حدود الرقص :
شمس المحيا أم القمر
أم بارق الثغر يا بشر
أم إليها حفه الخفر
بطرز خديك مستطر
قم تباهى بما تناهى ولا تلاهى
فكل أحبابنا حضر العود يشجيك والوتر
أفديك بالسمع والبصر
يا أهيفا وصله وطر
بدر بدا في دجى الشعر
قد لذ في حبه السهر
إذا تجلى وقد تخلى عليك يجلى
تحار في وصفه الفكر والعقل والسمع والنظر
وهي إلى معاني الرفث أقرب ، وتسعرها هذه الأوزان التي تهز الأعطاف قسرا ، وبعد … فلعلك اطمأننت إلى أن تنوع القوافي ، كتنوع الأوزان لا حدود له والمقبول منه ما أعان على الغرض . ولم يورث السمع استكراها والموسيقا نشازا.
والله ولى التوفيق ؛؛
تم بحمده الله وتوفيقه والله نسأل أن ينفع به وأن يجزينا عنه خير الجزاء إنه سميع مجيب الدعاء .
تمت مراجعة هذه الطبعة وضبطها بمعرفة
فضلية المستشار / محمد أمين المنزلاوى