يبدأ منذ الولادة
(يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات).
( ولما قالوا دى بنية إتهدت الحيطة عليا).
( ولما قالوا ده ولد إشتد ضهرى واتسند ).
( و إكسر للبنت ضلع يطلع لها إتنين).
هكذا تستقبل البنت فى ثقافتنا الشعبية، وهكذا يتعامل الفولكلور الذى هو ترجمة حس البسطاء مع الأنثى. وهذا هو أول مظاهر العنف ضد الطفلة التى من المفروض أن يستقبلها المجتمع بالترحاب على أنها ضيف فاعل وأساسى وليس على أنها احتياطى أو رديف للبطل الأصلى المغوار وهو الطفل الذكر الذى ينتظره الأهل على أحر من الجمر مهما كان فى البيت من طابور إناث. وهذا العنف الفلكلورى هو أقسى أنواع العنف لأنه يتعامل مع المجهول ويصادر على المستقبل. فهذه الطفلة المولودة لا ينتظر المجتمع حتى تقدم أوراق تفوقها أو حيثيات نجاحها، ولكن هى متهمة إلى أن تثبت براءتها وحتى عندما تثبت هذه البراءة فهى براءة ليست موجودة فى جيناتها الوراثية ولكنها براءة ممنوحة بصك مدموغ من الرجل. والفلكلور لا يتعامل بهذا الجفاء مع الطفلة حين ولادتها فقط وإنما يمتد هذا الجفاء وهذه العدوانية معها فى مسيرة الحياة بعد ذلك. فالمرأة لابد أن تكون عروسة حلاوة ويا ريت تبقى عروسة لنفسها ولسعادتها الشخصية ولكن لإسعاد الرجل الذى لابد أن تضبط موجتها الخاصة على ريموت كنتروله الحساس، فهى لابد أن تكون مفرفشة حتى لا يعبث فى الخارج ويرجع بيته بدرى: "اللى مراته مفرفشة يرجع البيت من العشا"، "وخد المليح وإستريح"، أو "خد الحلو وإقعد قباله، وإن جعت شاهد جماله". وهى لابد أن تبحث عن الزواج ليس لأنه يحقق تناغما وإنسجاما، ولكن لأنه يحقق أماناً وحماية ف "ضل راجل ولا ضل حيطه"، والمرأة لا تأخذ مكانتها الاجتماعية إلا من خلال الزوج "حرمة من غير راجل زى الطربوش من غير زر"، بل أكثر من ذلك سعادتها مرتبطة بمزاجه و المود بتاع سيادته الذى مهما تقلب فعليها أن تضبط ترموستات عواطفها على درجة حرارته الشخصية "اللى جوزها يحبها الشمس تطلع لها". ويزيد الفلكلور الشعبى فى بيان أسباب تبنيه لمفهوم البنت هم للممات بأنها لا تؤتمن على سر "يا ويل من أعطى سره لمراته يا طول عذابه وشتاته"، وهى لا يوثق ولا يعتد برأيها "الراجل ابن الراجل اللى عمره ما يشاور مراته". ولذلك فمن حق الناس مواساة من تلد بنتاً بقولهم " إن شالله تزينيها بعريس"، لأن "صوت حية ولا صوت بنية"، و "إبنى حمال همى وبنتى جلاب همى"، و"الصبى حمال المصايب والبنت بلوة ع الأهل وع القرايب". ويحتفل الأهل بسبوع الولد بأبريق فخم مذهب أما البنت فبمجرد قلة بالطبع لكسرها وراها بعد أن تذهب لبيت الزوجية. ويظل العقل الجامعى الذى ينبض بكراهية واحتقار المرأة يضغط على الجميع فتقتنع الأنثى بأنها بالفعل هم وإبتلاء، ويقتنع الرجل بأن طلاق من تنجب إناثا هو حق شرعى لأنه مش ناقص هموم و بلاوى أو على رأى المثل: "المشرحة مش ناقصة قتلى"!
أعتقد أن الطريق بعد ذلك أصبح ممهداً ومعبداً لأن تجرى عليه عربات العنف والاضطهاد ضد المرأة بسرعة الضوء. وإذا كنا قد عرفنا العنف فى الفصل الماضى ونحن نناقش أعنف سلوك بربرى وهمجى تتم ممارسته ضد الطفلة المصرية وهو الختان، فإننا سنحاول قبل التعرض لصور العنف الأخرى أن نناقش أنواعه وأسبابه ودواعيه.
فى دراسة هامة للدكتورة إقبال السمالوطى عن أنواع ودوافع العنف ضد المرأة والطفل حاولت تصنيف أنواع ذلك العنف من أربعة مداخل أو وجهات نظر:
1. من حيث القائمين: والمدهش أن المرأة نتيجة تزييف الوعى المزمن على مدى تلك السنوات تمارس أحيانا عنفاً ضد بنات جنسها فمثلاً فى حالة الختان تجر الأم بنتها بعنف لكى تختتن لأنها ترى أن فى ذلك صالح ابنتها ومصدر عفتها وشرفها.
2. من حيث نوعية العنف: هناك عنف جسدى أو مادى بالضرب والاغتصاب وهناك عنف معنوى بالسب والإهانة والتجريح والسخرية.
3. من حيث مدى شموله: عنف فردى يتم نتيجة لترويج فكر جماعة عقائدية معينة تحمل ااحتقارا شديداً للمرأة وتلبس هذا الاحتقار وتسبغ عليه رداءاً فكرياً عقائدياً مكذوباً.
4. من حيث الدافع للعنف: هناك عدة دوافع للعنف منها الإحباط كوسيلة لدفع الفشل، أو الحرمان سواء مادى أو معنوى كوسيلة تعويض، وقد يكون الدافع للعنف هو إظهار الرجولة أو الرغبة فى الانتقام من الذات.
أما العوامل البيئية التى يحاول بها علماء الاجتماع تفسير دوافع العنف تجاه المرأة والطفل فهى كثيرة نلخصها فى النقاط التالية:
أولاً: نظرية الضغط البيئى: وهذه النظرية ترى أن الضغوط البيئية المختلفة سواء كانت زحاماً أو ضوضاء أو تلوث أو خلافه من ضغوط البيئة تؤثر إذا زادت عن الحد وقدرة التحمل فسوف تؤدى إلى انفجار الإنسان وقيامه بأعمال العنف. فمثلا ساكن العشوائيات الذى يعانى من الازدحام وسوء حالة المسكن ونقص الخصوصية وانعدام المرافق والخدمات بالطبع سيمارس العنف. ومن العادى والطبيعى أن يمارسه ضد الضعفاء وفى مقدمتهم النساء والأطفال. وهذه نظرية فى مجملها سليمة ولكنى لا أقبلها على إطلاقها فنحن نرى أن العنف صار يستشرى حتى فى أكثر الطبقات ثراء وتعليماً، مما يدل على أن تيار العنف ضد المرأة صار تياراً فكريا مقبولا إلى حد ما وله مبرراته التى يقدمها البعض على أنها من العرف أو من التقاليد أو من الأخلاق أو من الدين وهذا مكمن الخطر.
ثانيا: نظرية الموارد الاجتماعية: ترى هذه النظرية أن الصراع بين البشر يزداد مع زيادة عدد السكان بمعدل أكبر من معدل تزايد الموارد البيئية، ومن هنا يتم الصراع والتنافس على هذه الموارد المحدودة ويتولد العنف. وحيث أن رقعة مصر الزراعية فى حدود 6 مليون فدان ثابتة لا تتزعزع فى نفس الوقت الذى يتضاعف فيه عدد السكان بشكل سرطانى مما يساعد على إزدياد ظاهرة العنف وخاصة نحو الأضعف كما ذكرنا المرأة والطفل.
ثالثا: نظرية الحرمان البيئى: البيئة لا تشبع حاجات أبنائها تدفعهم دفعاً نحو العنف، هذا هو ملخص تلك النظرية الصحيحة إلى حد كبير، فيكفى أن ننظر إلى حرمان الصعيد من الخدمات والاستثمارات مقارنة بالوجه البحرى و انعكاس ذلك على نسبة العنف وانتشاره.
رابعا: نظرية الإحباط: البيئة المحبطة بيئة تفرخ العنف، فالفرد الذى لا ينجح فى تحقيق ذاته من خلال عمل أو أسرة هو صيد سهل لممارسة العنف.
خامسا: نظرية المهمشين: هذه النظرية ترى أن من هم على هامش المجتمع والمهملين من قبل الدولة أكثر المواطنين ممارسة للعنف، فالتجاهل هو مشتل العنف ومحرض الانتقام، وبالطبع يمارس الهامشى عنفه ويخرج عقده على من هم أكثر هامشية المرأة والطفل.
سادسا: نظرية التعليم: العنف سلوك مكتسب من الممكن تعلمه من البيئة المحيطة أو من على الشاشة.. إلخ. وهذا يلقى اللوم على وسائل التعليم والإعلام فى تقديم العنف كسلوك مقبول أو على الأقل متعود عليه.
هذه النظريات من الممكن أن تفسر لنا وتجيب على سؤال لماذا العنف ضد المرأة؟، ولكنها لا تستطيع الإجابة على سؤال لماذا التمييز ضدها؟. ذلك التمييز الذى يبدأ كما ذكرنا من قبل الولادة أثناء الاستعداد الذى تختلف مفرداته بالنسبة للولد عنه بالنسبة للبنت، وبعدها يبدأ الأهل بالتعامل بشكل مختلف مع كل منهما على حدة وتنتقل خبرات حياتية مختلفة تجعل الاستجابات مختلفة هى الأخرى. فالبنت لها العروسة وأدوات المطبخ اللعبة، والولد له ألعاب الذكاء والمهارة، والفك والتركيب والمسدسات. وبعدها تأتى المدرسة لترسيخ قيمة التفوق الذكورى، وتؤكد على هذا المفهوم الدكتورة رفيقة حمود التى تقول تخضع الفتاة منذ طفولتها لتربية صارمة تتطلب منها الطباع اللينة، والنعومة فى الكلام، وانخفاض الصوت عند الضحك، فى حين تترك للصبى حرية الكلام والقهقهة والتصرف. ويدرب الصبى ليكون شجاعاً قوياً لا يبكى، وتوجه البنت لتكون سلبية متقبلة ضعيفة، وقد بينت الدراسات على سبيل المثال أن الأهل يحاولون استثارة نشاط الصبى وعدوانيته، ويسخرون منه إذا بكى أو خاف، ويتسامحون معه إذا تسلق الأشجار والجدران، فى حين يرفضون أن تكون البنت كثيرة الحركة ومتمتعة بالحيوية والاستقلالية، ويؤنبونها على كثير من التصرفات التى يتسامحون فيها مع الصبى ويحاولون تعديل سلوكها، ويشجعونها لتكون هادئة ومطيعة. وبالإضافة إلى ما سبق يفرض على الفتاة طابع من السرية والتكتم فهى الستر الذى لابد له من غطا، ودلالها وتدليلها خطأ وفضيحة: "دلل الحية ولا تدلل البنية"!، ويتم تدريب البنت بكل إصرار على خدمة ذكور الأسرة بما فيهم إخوتها الأصغر منها. وبالطبع يكون هذا مقدمة لتدريبها على دور الزوجة المطيعة التى لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم إلا عندما يسمح لها. وكما يقول المثل العربى: "تلاته بيطولوا العمر: الدار الوسيعة، والفرس السريعة، والمرأة المطيعة"، وأيضا يشمل هذا التدريب المبكر للطفلة على دورها المستقبلى إجبارها على ترك اللعب بل والدراسة فى بعض الأحيان وذلك للتفرغ لمساعدة الأم فى الأعمال المنزلية، فى حين يحصل الولد على وقت أكبر للتركيز واللعب وينطلق خارج المنزل إلى العالم الخارجى الذى ينمى قدراته. والمدهش أن التمييز يمتد إلى طريقة العقاب، تقول الباحثة أميرة بهى الدين: "عندما تعاقب الأسرة صغارها تميز فى ذلك بين الصغير والصغيرة سواء، من حيث سبب العقاب، أو من حيث جسامة العقاب وتكراره، فالصغيرة تلازم أمها فى المنزل فتفجر الأم فيها كل إرهاقها وآلامها الدفينة بسبب مشاكلها الأسرية الخاصة، بخلاف الصبى الذى يكون خارج المنزل يدرس أو يلهو أو يعمل، فالأم لا تقسو على ابنها الذكر سواء لإعجابها الدفين برجولته المبكرة، أو لأنها تخشى فراره منها إن هى قست عليه. فى حين تتوقع من الفتاة الطاعة والتفانى وإنكار الذات. إنه العنف المنظم المعوق للفتيات القاتل لاستقلاليتهن والمهدر لطاقتهن الإبداعية. ثم تأتى وسائل الإعلام التى تقدمها على أنها مخلوق هيمان فى عالم الأحلام، وشخصية سلبية مترددة تفتقد إلى أدنى درجات التفكير العقلانى لا هم لها إلا البحث عن الرجل وضله لإمتاعه الجنسى. وتمثيلية "الحاج متولى" ليست بالبعيدة عنا. وتقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى دراسة نشرت لها عام 2000 أن 80% من برامج المرأة فى التلفزيون تتناول فن الطهى والحياكة والموضة وتربية الأطفال وفن الديكور، وكأن هذه المسائل هى قضية المرأة الأساسية وزادها اليومى. وهكذا يزيد إيقاع التعامل معها كدمية وموديل ومادة للمتعة، وتكرس الدونية التى هى الباب السحرى لولوج التمييز المؤدى إلى العنف.
من أبرز مظاهر العنف ضد الطفلة الأنثى التمييز فى التغذية والعناية الصحية، فبرغم الجهد الملموس للدولة فى رعاية الطفل الصحية سواء فى توفير التطعيمات والأمصال أو فى توفير محاليل الجفاف والأدوية وتعميم التأمين الصحى، إلا أن التمييز الاجتماعى قد أصاب الطفلة الأنثى بالضرر الصحى من ناحية سوء التغذية أو إهمال الرعاية الصحية السليمة. فالكثير من الأمهات يحرصن على إرضاع الصبيان لفترة أطول من تلك التى تخصص للبنات. وفى معظم الأحيان تحرصن على تقديم لحوم أكثر للصبى عن أخته وتتلهفن على الذهاب للطبيب بالولد أسرع من البنت. وفى كل التقارير العربية يتضح بجلاء أن نسبة وفيات البنات فى السنوات الأولى أعلى من نسبة وفيات الذكور، والأنيميا نسبتها أعلى فى الإناث عن الذكور. وفى دراسة لليونيسيف على المنطقة العربية 1995 اتضح أن نسبة البنات اللواتى يعانين من الأنيميا تزيد 2.3% عن البنين، كما وجد أن 25% من الفتيات فى سن المراهقة يعانين من نقص نسبة الحديد، فضلاً عن زيادة نسبة التقزم، ونقص البروتين نتيجة لممارسات التغذية المتحيزة للبنين. وفى دراسة أجراها عادل سلطان وناهد رمزى على إحدى القرى المصرية وقدماها لجمعية التنمية الصحية والبيئية 1999 ، ذكر أنه عند توزيع الطعام داخل الأسرة أثناء شهر رمضان وعيدى الفطر والأضحى يحصل الأب على 32% من إجمالى الطاقة الغذائية التى تستهلكها الأسرة، فى حين تحصل الأم على28.8% من هذه الطاقة كما يحصل الأب على 32.9% من إجمالى عنصر الحديد فى غذاء الأسرة، بينما لا تحصل الأم سوى على 29.1% من هذا العنصر. وتوجد دراسات أخرى تشير إلى أن معدل انتشار الأنيميا بلغ 22.1% بين الحوامل و 25.3% بين النساء المرضعات.
ومن عنف التمييز الغذائى والصحى الذى من الممكن ألا يكون ملموسا لدى الكثيرين إلى عنف أخر أكثر وضوحا وأوسع تأثيراً وأفدح خطراً، ألا وهو التمييز فى فرص التعليم، فتعليم الولد واجب أما تعليم البنت فهو عند البعض ترف، وتعليم الولد لن يفسده أما تعليم البنت فقد يفسدها ويفتح عينيها وكأننا كنا نتمنى ولادتها عمياء. وتعليم الولد مباح حتى فى المدارس البعيدة عن القرية أما تعليم البنت فيجب أن يكون جنب البيت فإذا لم يتوفر هذا القرب فجلوسها فى البيت أفضل. و إذا تعثر الولد فيجب أن يعيد السنة أما البنت فتعثرها لا يتطلب إعادة أو تحسين مجموع ويقرر الأهل أن يتاووها فى أى جراج مدرسى حتى تحصل على دبلوم التجارة.. "مش آخرتها حتتجوز وتقعد فى البيت"؟.. إلخ. وسيادة هذه المفاهيم فضلا عن أنها تتعارض مع أبسط القيم الإنسانية فهى تتعارض أيضا مع المواثيق الدولية التى وقعنا عليها مثل اتفاقية حقوق الطفل والتى سيأتى ذكرها كثيرا فى حلقات دراستنا، وهى تنص فى المادتين 28 و29 على عدد من البنود أهمها:
1- تعترف الدول الأطراف بحق الطفل فى التعليم، وتحقيقاً للإعمال الكامل لهذا الحق تدريجيا ، وعلى أساس تكافؤ الفرص، تقوم هذه الدول بما يلى:
أ. جعل التعليم الابتدائى إلزاميا ومجانياً.
ب. تشجيع تطوير شتى أشكال التعليم الثانوى سواء العام أو المهنى، وتوفير الأشكال وإتاحتها لجميع الأطفال، واتخاذ التدابير المناسبة لذلك، مثل إدخال مجانية التعليم وتقديم المساعدة المالية عند الحاجة إليها.
ج. جعل التعليم بشتى الوسائل المناسبة متاحاً للجميع على أساس القدرات.
د. جعل المعلومات والمبادىء الإرشادية التربوية والمهنية متوافرة لجميع الأطفال وفى متناولهم.
هـ. اتخاذ التدابير لتشجيع الحضور المنتظم فى المدارس والتقليل من معدلات ترك الدراسة.
2- تتخذ الدول الأطراف التدابير المناسبة لضمان إدارة النظام فى المدارس على نحو يتمشى مع كرامة الطفل الإنسانية.
3- تقوم الدول الأطراف بتعزيز التعاون الدولى وتشجيعه فى الأمور المتعلقة بالتعليم وبخاصة من أجل هدف الإسهام فى القضاء على الجهل والأمية.
4- توافق الدول الأطراف على أن يكون تعليم الطفل موجهاً نحو: أ. تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكانياتها.
ب. تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات ومبادىء حقوق الإنسان. ج. تنمية الاحترام لهوية الطفل الثقافية ولغته وقيمه الخاصة، وأيضا الحضارات المختلفة عن حضارته.
د. إعداد الطفل لحياة تستشعر المسئولية فى مجتمع حر، بروح من التفاهم والتسامح والمساواة بين الجنسين.
ولكن هل تحققت تلك المساواة المزعومة؟ الحقيقة لا، فالمفارقة صارخة وحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 1999 هناك أكثر من 130 مليون طفل فى البلدان النامية محرومون من حق التعليم، وللأسف ثلثا هذا العدد من البنات أى حوالى 87 مليون طفلة. وكذلك يشير نفس التقرير إلى أن سدس سكان العالم أميون ومعظمهم فتيات. وهذا بالطبع انتهاك لحقوق الإنسان وإهدار لطاقات المرأة الفاعلة وتبديد لقوى إنتاجية مؤثرة فى المجتمع. وإذا انتقلنا من المستوى العالمى إلى المستوى المحلى هنا فى مصر سنجد أن الصورة ليست وردية، بل قاتمة وأننا بالفعل ما زلنا بعيدين عن مستوى ونسب الدول المتقدمة فى التعليم، فالنساء يشكلن 66% من إجمالى نسبة الأمية فى مصر. ويصل معدل الالتحاق بالمرحلة الابتدائية للفتيات إلى 79% بفاقد قدره 21% من إجمالى عدد الفتيات فى المرحلة العمرية الموازية. وتزداد نسبة الفاقد لتصل إلى 42% فى المرحلة الثانوية، إذ يصل معدل التحاق الفتيات إلى 58%. والتمييز بين البنات والأولاد فى مسألة التعليم يصل إلى نسب فاضحة ومزرية فالفجوة النوعية فى التعليم بين الذكور والإناث تصل إلى 21%، وذلك بالطبع إنطلاقا من مفهوم المصير النهائى للبنت هو الزواج، وأنها ماكينة تناسل بشرى لابد أن تهيأ لهذه الوظيفة، وتنطلق مقولة: "يعنى اللى قبلك عملوا إيه بالتعليم"؟ وتصدقها البنت الصغيرة وتظل منذ نعومة أظفارها تؤهل نفسها لهذا الدور فتهمل الدراسة ولو تفوقت فهى تتفوق هروباً من جو الأسرة الخانق وتطلعاً إلى اليوم الذى تخرج فيه من الأسر. وأحيانا تنجح وكثيرا ما تفشل فدورها الرئيسى كأنثى لا كإنسان كامل الإنسانية لا تتبناه الأسرة فقط ولكن للأسف يتبناه المجتمع ككل وهنا تكمن المأساة.
ونجاح الفتاة فى التعليم سرعان ما يواجه بعوائق وصعوبات مثل بعد المدرسة عن البيت. وتذكر د. ناهد رمزى فى دراستها عن الحرمان من التعليم أثبتت الدراسات فى ريف مصر أنه عندما يزيد بعد المدرسة عن كيلو متر واحد من المسكن فإن معدل التسرب لدى الفتيات يزداد بشكل جوهرى، وقد أشارت الإحصاءات إلى أن معدل تسرب الفتيات من التعليم الأساسى يصل إلى21%.
إن ضمان حق التعليم ليس إجراءا منعشاً للاقتصاد فحسب أو محافظاً على الأخلاق والعدل فقط، ولكنه يشمل جوانب كثيرة ربما تمتد مع الفتاة بعد ذلك طوال حياتها. فعلى سبيل المثال تبين أن هناك إارتباطا واضحا بين تعليم الفتيات وانخفاض معدلات وفيات الأطفال فزيادة نسبة 10% فى تعليم البنات بالمرحلة الابتدائية ترتبط بانخفاض نسبة وفيات الأطفال بنسبة4.1% وفاة فى كل ألف وفاة. كما أن أى ارتفاع مماثل لنسبة البنات الملتحقات بالتعليم الثانوى يمكن أن يؤدى إلى توقع انخفاض آخر مقداره 5.6% وفاة فى كل ألف وفاة. وبالإمكان كذلك أن نترجم كل سنة تعليم إضافية إلى انخفاض فى معدل الإنجاب علاوة على نقص فى وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة.
لكن تظل المأساة الأكبر وهى أن العنف ينتقل من البيت خارج المدرسة إلى داخل المدرسة حيث تمارس سلوكيات عنف وقسوة ضد الفتاة داخل أسوارها لدرجة أن 50% من عمالة البنات الصغيرات سببها الهروب من قسوة المدرسة، وغير بعيد عن الذاكرة ظاهرة الإغماء الجماعى الذى كان يحدث فى مدارس البنات فقط منذ عدة سنوات، والذى دل على أن عملية تشكيل شخصية تلك الفتيات داخل المدارس بها خلل خطير أدى إلى إنتاج نفسيات هشة ومعقدة وهستيرية مما يفرض على علماء التربية النظر بعين الاعتبار إلى وضع قواعد للتعامل مع البنات الصغيرات داخل المدرسة تحترم الجانب النفسى قبل الجانب التلقينى.
أتمنى ألا نكسر للبنت ضلع لأنها لن تعوضه بضلعين، بل ستعوضه بحزنين، و ارتعاشتين، وترددين، وإنكسارين، وشجنين، وإغترابين، ودمعتين، وصمتين. فالضلع وراءه القلب وقلبها لن يحتمل أكثر من عنف. وإن حدث ذلك فهى حتماً ستضع مكان القلب عصفوراً ذليلاً لتتحول الضلوع إلى قضبان، والصدر إلى زنزانة والقلب إلى مآقى دموع.
عمل الطفلة سخرة مقنعة
الرزق الجديد .. عنف مستتر وعبودية جديدة
عندما أثيرت قضية تعذيب خادمة وفاء مكى فى جميع وسائل الإعلام تم التركيز على الجانب البوليسى فيها، وطرحت الأسئلة ذات اليمين وذات اليسار عن هل عذبت وفاء الخادمة وهل هى بريئة أم مذنبة؟ وهل الخادمة صادقة أم كاذبة ومدعية؟ كيف تظل الخادمة فى الحمام ولا تصرخ للنجدة؟، وكيف تستطيع الأم المريضة أن تقيد الخادمة؟، وكيف نقلت الخادمة للقرية؟، وما هو تقرير الطب الشرعى؟ وما هو مقدار التعويض الذى أخذه الأب؟.. إلخ. هذه الأسئلة وغيرها والتى انهمرت كالشلال مكتسحة فى طريقها السؤال الموضوعى الذى كان لابد أن نسأله لأنفسنا قبل هذه الاستفهامات المباحثية. السؤال هو لماذا عملت مروة الطفلة بنت العاشرة كخادمة فى بيت وفاء مكى من الأصل؟ ولماذا أرسلها أبوها هى وشقيقتها للعمل هناك؟. بالطبع إنه الفقر، ولكن هل الفقر هو الذى أصابنا نحن المثقفين بالتنويم المغناطيسى والغيبوبة حتى ننسى أو نتناسى طرح هذا السؤال أم أنه الخوف من فتح هذا الدمل المتقيح بصديد اللامبالاة والقسوة والذى يديننا قبل أن يدين الأب أو مروة أو حتى وفاء مكى؟!. وهل لو لم تعذب مروة وأمثالها من الخادمات الصغيرات فهل عملها كخادمة من الناحية الإنسانية والقانونية والاجتماعية صحيح؟. وإذا لم يكن هناك قانون يحظر عمل الطفلة كخادمة فلماذا لا يصدر قانون يحظر هذه السخرة الجديدة؟. وهذا هو السؤال الحقيقى الذى تاه فى وسط هيستريا بحثنا الدائب عن جانب الفضيحة والنميمة فى أى قضية نناقشها لنختزل هذه القضية وغيرها لتظل أسيرة نظرة أنانية ضيقة كالطائر مقصوص الريش لا يستطيع التحليق فى الفضاء المتسع، وتفشل فى أن تصبح قضية اجتماعية تتصدر المشهد الوطنى وتبقى كمعظم قضايانا الاجتماعية الهامة مادة نميمة تتصدر أخبار الحوادث.
يقول بهى الدين حسن فى ورقته المقدمة لليونيسيف 1994 عن الطفلة الخادمة عندما تعمل الصغيرات كخادمات فى المنازل- وهو عمل بالغ الانتشار فى مصر- يحرمن من أسرهن، ويحتجزن فى أسر غريبة عنهن، يقدمن لها خدمات لا تتناسب مع أعمارهن، ويتعاملن مع أجهزة معقدة ويحملن الأثقال، ويخدمن الأطفال الذين هم فى مثل عمرهن أو يزيد، يحملن حقائبهم المدرسية، ويرتدين ثيابهم البالية، ويأكلن ما يبقى عنهم، ويتحملن العقاب الرادع لأتفه الأسباب، ويقارن أنفسهن بأطفال الأسر التى يخدمونها والذين يلاقون الكثير من الرعاية والتدليل فيشعرن بالقهر النفسى. والخدمة فى البيوت ليست العمل الوحيد للطفلة الفقيرة ولكنها تؤخذ من حضن الأسرة لتعمل أحيانا فى الزراعة أو جنى القطن أو ورش النسيج والملابس وصناعة السجاد والمصانع الصغيرة.. إلخ. إنه استرقاق من نوع جديد تحت سمع وبصر المسئولين ولكن يتم التغاضى عنه برغم وجود القوانين الدولية والمحلية، والتى لابد أن نتوقف عندها ليتذكر المتناسون والمتغاضون والمطنشون!!.
بدأ الاهتمام العالمى بقضية عمالة الأطفال عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، فتوالى صدور الاتفاقيات التى تنظم اشتغال صغار السن فى الأنظمة المختلفة، وصدرت أول اتفاقية برقم 5 لسنة 1921 بتحديد سن تشغيل الأحداث فى الأعمال الصناعية، مقررة تحريم وتجريم تشغيلهم قبل سن الرابعة عشر فى المنشآت الصناعية. وبمقتضى الاتفاقية رقم 59 لسنة 1948 بألا تتجاوز مدة تشغيل الأطفال دون سن الثامنة عشر سبع ساعات يومياً، وحرم تشغليهم ليلاً. ثم صدر الإعلان العالمى لحقوق الطفل من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 1959 والذى كان بمثابة طوق نجاة لأطفال العالم، وينص المبدأ التاسع من هذا الإعلان على أنه من الواجب ألا يبدأ استخدام الطفل قبل بلوغه سناً مناسبة، كما يجب ألا يسمح له بأى حال من الأحوال أن يتولى حرفة أو عملاً قد يضر بصحته أو يعرقل وسائل تعليمه، أو يعترض نموه من الناحية البدنية أو الخلقية أو العقلية. وكذلك تؤكد اتفاقية حقوق الطفل 1989 والتى صدقت عليها 160 دولة من ضمنها مصر، تنص فى المادة 32 على ما يلى:
تعترف الدول الأطراف بحق الطفل فى حمايته من الاستغلال الاقتصادى، ومن أداء أى عمل يرجح أن يكون خطيرا، أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل أو أن يكون ضاراً بصحة الطفل أو بنموه البدنى أو العقلى أو الروحى أو المعنوى أو الاجتماعى.
وبالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التى وافقت عليها مصر هناك الاتفاقيات العربية، وأهمها الاتفاقية رقم 1 لعام 1966 والتى تناولت موضوع تشغيل الأحداث ضمن المواد من 57 إلى 64، حيث تلزم فى البداية التشريع الوطنى لكل دولة، بتحديد الأعمال التى لا يجوز تشغيل الأحداث فيها من الجنسين قبل 12 سنة، ولا يجوز تشغيل الأحداث فى الأعمال الصناعية قبل سن 15 سنة، باستثناء الملتحقين بالتدريب، وعدم جواز تشغيل الأقل من 17 سنة فى الأعمال الخطرة أو الضارة بالصحة. أما التشريع المصرى فقد اعتنى بالطفل من كافة جوانبه النفسية والاجتماعية والصحية حيث ألزم الدستور الدولة بحماية الأمومة والطفولة وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم. كما أولى رئيس الجمهورية الطفولة إهتماماً خاصاً عندما أصدر عام 1988 قراراً بإنشاء المجلس القومى للطفولة والأمومة، وكذلك عندما أعلن عن عقد حماية الطفولة منذ 1989، وتتابع السيدة سوزان مبارك بمجهوداتها العظيمة رعاية مبدأ الاستمتاع بالطفولة وتوفير كل الظروف المناسبة لازدهارها.
وقد سنت القوانين منذ سنة 1909 لتنظيم عمل الأطفال حيث صدر القانون رقم 14، ثم صدر قانون رقم 48 لسنة 1923 وكان السن المحظور وقتها أقل من 9 سنوات، ثم ارتفع سنة 1959 إلى 12 سنة، ثم عام 1981، ثم صدق مجلس الشعب عام 1996 على قانون الطفل وفيها يحظر عمل الأطفال قبل 14 سنة ويجوز بقرار من المحافظ المختص بعد موافقة وزير التعليم الترخيص بتشغيل من دون الثانية عشرة فى أعمال موسمية بحيث لا تخل بتعليمهم أو بصحتهم. ولا يجوز تشغيل الأطفال أكثر من ست ساعات فى اليوم، ويجب أن تتخلل ساعات العمل فترة أو أكثر لتناول الطعام والراحة لا تقل فى مجموعها عن ساعة ويحظر تشغليهم فى أيام الراحة أو العطلات الرسمية، وأيضا لا يجوز تشغليهم فيما بين الساعة الثامنة مساء والسابعة صباحاً.
لكن هل التزمنا حقاً بهذه القوانين والالتزامات أم أنها صارت حبراً على ورق؟. الواقع يثبت أننا فى كثير من الأحيان قد حولناها لحبر على ورق. وبالطبع أتحدث عن الأطفال من الجنسين ولكن لأننا نناقش فى هذه الدراسة العنف ضد المرأة فسيتم التركيز على الطفلة الأنثى، وأيضا لأنها الضحية الأكثر تعرضا للتعويق الاجتماعى والتشويه النفسى والتسرب التعليمى من الطفل الذكر. وتقدم النتائج التى توصل إليها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ونشرتها د. ناهد رمزى عن ظاهرة عمل الأطفال فى الورش الصناعية صورة صارخة البشاعة عن ظروف عمل الفتيات الصغيرات، فقد ارتفعت بينهن نسب العاملات فى المواد الكيماوية 54% كالعمل فى المدابغ وصناعة الخراطيم ومواسير البلاستيك والصباغة، و 32% فى الأفران. وبينت دراسات الحالة أن هذه الورش تتسم بظروف غير مناسبة للعمل نتيجة لقلة الإضاءة وضعف التهوية و انتشار الروائح النفاذة وارتفاع الضوضاء بما يمثله ذلك من مخاطر جسدية ونفسية شديدة عليهن خاصة أن هؤلاء الفتيات كن يمضين كل يومهن فى العمل داخل الورشة. وتزداد الجوانب السلبية بخلو تلك الورش من احتياطات الأمن الصناعى، فقد أثبتت الدراسة أن 91% من الأطفال العاملين فى المهن الخطرة لا يرتدون ملابس خاصة ولا يستخدمون أدوات واقية من مخاطر العمل. كذلك بينت الدراسة أن 40% من تلك الورش تخلو من أبسط أنواع أجهزة الأمان كطفايات الحريق، و أن 50% من هذه الورش تخلو من أدوات الإسعاف الأولية التى تحتاجها فى حالة إصابة أحد العمال.
وقد أشارت نتائج دراسات أخرى أن 36% من الفتيات اللاتى يعملن فى صناعة السجاد يعانين من مشكلات بصرية ومن إعاقة جسمية ومن أمراض صدرية، كما أن أوزانهن تقل عن الوزن الطبيعى للفتيات فى أعمارهن نفسها. كما أن هناك فرقاً فى الطول (يعكس نقصا فى النمو) يبلغ من 2 - 4 سم، وذلك بالمقارنة بالفتيات المناظرات لهن فى العمر واللاتى لم يسبق لهن الالتحاق بأى عمل. وفى الأعمال الزراعية تزداد المعوقات حيث تستخدم الفتيات بصورة كبيرة وخطيرة وفى أعمال شاقة مثل رش الأسمدة والمبيدات والحصاد والعناية بالحيوانات وحمل صناديق الخضروات وغيرها من الأعمال المضنية.
ومشكلة عمالة الأطفال مشكلة عالمية بدأت تشكل خطراً كبيراً وباتت تمثل قلقاً مزمناً فى ضمائر الأمم لدرجة أن بعض البلاد بصدد إصدار تشريعات بحظر منتجات من صناعات تستخدم عمل الأطفال. وهناك أكثر من 120 مليون طفل فى العالم يعملون وقتاً كاملاً من عمر 5 إلى 14 سنة. ويمثل الأفارقة 40% من هذه النسبة. أما فى العالم العربى فقد وصل عدد الأطفال فى سوق العمل نحو عشرة ملايين طفل عربى فى عام 2000. وقد أرجع الباحثون عمالة الطفل بهذه الصورة المضطردة إلى تلك العوامل:
العوامل السكانية: يربط البعض بين عمالة الأطفال وبعض الظواهر السكانية مثل ارتفاع معدلات الإنجاب والهجرة من الريف إلى الحضر.
انخفاض المستوى التكنولوجى: قد يكون هناك ارتباط بين عمالة الأطفال وبين انخفاض المستوى التكنولوجى فى القطاعين الزراعى والصناعى، فضلا عن انخفاض أجور الأطفال، وكفاءتهم فى أداء بعض الأعمال مثل جمع القطن والأعمال المساعدة فى الورش الصناعية.
ولكن هذه العوامل يعتبرها البعض فى مجملها لا تعدو أن تكون عوامل جذب وليست عوامل أساسية، ويرجعون العوامل الأساسية إلى عوامل تعليمية أو اقتصادية، ويركزون على التعليم كسبب أساسى. فالفشل فى التعليم أو الرغبة فى تعلم صنعة بديلة للتعليم هو سبب رئيس ومهم، ثم تأتى الحاجة لمساعدة الأهل فى مصروف البيت أو رغبة الطفل فى الحصول على مال ينفقه على نفسه ومتطلباته الشخصية. كما أن هناك أسباب فرعية مثل أن العمل أفضل من اللعب فى الشارع، وعدم الرغبة بالجلوس فى المنزل، أو بسبب وفاة أحد الوالدين أو الرغبة فى التجهيز للزواج.. إلخ.
وفى دراسة الدكتور أحمد عبد الله القيمة والمهمة عن عمالة الأطفال أجراها فى مدابغ مصر القديمة وجد أن 90% من أسباب عمالة الأطفال فى رأى أرباب الأسر ترجع إلى الفقر، وحوالى 50% فى رأى الأطفال أنفسهم تعود للفشل فى التعليم، وطبقا للأرقام التى ذكرتها نفس الدراسة يتضح أن القوة العاملة للأطفال تمثل 29% من مجموع أطفال مصر فى الفئة العمرية من 6 إلى 14 سنة، وهى نسبة رهيبة لأنها استغلال بكل ما تحمله كلمة الاستغلال من معنى ،وبحسب تعبير مدير عام منظمة العمل الدولية 1983 الذى لخص أوجه الاستغلال فى توظيف الأطفال فى مهام أو فى ظل ظروف تعرض حالتهم الجسدية والعقلية للخطر، واستقطاع للأرباح من عمالة الأطفال عن طريق دفع أجور منخفضة لهم، وإنكار حق الأطفال فى اللعب والتعليم والاستمتاع بطفولة طبيعية. ويكفى أن نذكر حالة الطفلة منى عبد الغنى فى هذه الدراسة والتى بدأت العمل فى المدابغ فى سن ثلاث سنوات ونصف وكان أجرها فى سن الرابعة والنصف خمسة جنيهات فى الأسبوع، وكانت عينة البحث على خمسين طفلاً منهم أربعين بدأوا العمل قبل العاشرة.
وبما أننا لا نعترف بالآثار النفسية لعمالة الأطفال ونعتبرها دلع ومياصة عيال، فسنذكر حادثتين توفى فيهما أطفال فى عمر الزهور، الأولى فى عام 1991 فى الحوامدية بالجيزة حين لقى 11 طفلا مصرعهم فى انقلاب عربة كانت تقلهم إلى مكان عملهم فى شركة قطاع عام لتكرير السكر. تصوروا؟! قطاع عام؟! يا ناس!. والثانية يوم 7 سبتمبر 1992 حين ماتت فتاتان إحداهما فى العاشرة فى انقلاب عربة أيضا كانت تقلهما من قرية صا الحجرية غربية إلى إحدى مزارع الياسمين الخاصة. وهناك بالطبع مئات الحوادث مثلها تحدث سنوياً ولا حس ولا خبر. وبرغم هذه النهايات المفجعة إلا أن السخرة الجديدة والرق المستتر فى عمالة الأطفال ما زال مستمراً برغم صيحات وصرخات المهتمين والباحثين. وما زالت عينا الطفلة البريئة الخادمة التى تنظر إلى عروسة رفيقتها فى السن والتى جعلها الزمن ستها، ما وزالت هذه النظرة لا تؤرق أحداً، ما زالت يدا البنت المعروقة الجافة من أثر الأنيميا وهى مجروحة من عيدان القطن لا تستفز أحداً، وما زال صدر الأمورة المزيق من الربو فى مصنع السجاد لا يسمع أحداً إلا الأمورة نفسها، فمتى نرى ونسمع؟! أم أننا فى الكهف نائمون وفى العسل غارقون.
(يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات).
( ولما قالوا دى بنية إتهدت الحيطة عليا).
( ولما قالوا ده ولد إشتد ضهرى واتسند ).
( و إكسر للبنت ضلع يطلع لها إتنين).
هكذا تستقبل البنت فى ثقافتنا الشعبية، وهكذا يتعامل الفولكلور الذى هو ترجمة حس البسطاء مع الأنثى. وهذا هو أول مظاهر العنف ضد الطفلة التى من المفروض أن يستقبلها المجتمع بالترحاب على أنها ضيف فاعل وأساسى وليس على أنها احتياطى أو رديف للبطل الأصلى المغوار وهو الطفل الذكر الذى ينتظره الأهل على أحر من الجمر مهما كان فى البيت من طابور إناث. وهذا العنف الفلكلورى هو أقسى أنواع العنف لأنه يتعامل مع المجهول ويصادر على المستقبل. فهذه الطفلة المولودة لا ينتظر المجتمع حتى تقدم أوراق تفوقها أو حيثيات نجاحها، ولكن هى متهمة إلى أن تثبت براءتها وحتى عندما تثبت هذه البراءة فهى براءة ليست موجودة فى جيناتها الوراثية ولكنها براءة ممنوحة بصك مدموغ من الرجل. والفلكلور لا يتعامل بهذا الجفاء مع الطفلة حين ولادتها فقط وإنما يمتد هذا الجفاء وهذه العدوانية معها فى مسيرة الحياة بعد ذلك. فالمرأة لابد أن تكون عروسة حلاوة ويا ريت تبقى عروسة لنفسها ولسعادتها الشخصية ولكن لإسعاد الرجل الذى لابد أن تضبط موجتها الخاصة على ريموت كنتروله الحساس، فهى لابد أن تكون مفرفشة حتى لا يعبث فى الخارج ويرجع بيته بدرى: "اللى مراته مفرفشة يرجع البيت من العشا"، "وخد المليح وإستريح"، أو "خد الحلو وإقعد قباله، وإن جعت شاهد جماله". وهى لابد أن تبحث عن الزواج ليس لأنه يحقق تناغما وإنسجاما، ولكن لأنه يحقق أماناً وحماية ف "ضل راجل ولا ضل حيطه"، والمرأة لا تأخذ مكانتها الاجتماعية إلا من خلال الزوج "حرمة من غير راجل زى الطربوش من غير زر"، بل أكثر من ذلك سعادتها مرتبطة بمزاجه و المود بتاع سيادته الذى مهما تقلب فعليها أن تضبط ترموستات عواطفها على درجة حرارته الشخصية "اللى جوزها يحبها الشمس تطلع لها". ويزيد الفلكلور الشعبى فى بيان أسباب تبنيه لمفهوم البنت هم للممات بأنها لا تؤتمن على سر "يا ويل من أعطى سره لمراته يا طول عذابه وشتاته"، وهى لا يوثق ولا يعتد برأيها "الراجل ابن الراجل اللى عمره ما يشاور مراته". ولذلك فمن حق الناس مواساة من تلد بنتاً بقولهم " إن شالله تزينيها بعريس"، لأن "صوت حية ولا صوت بنية"، و "إبنى حمال همى وبنتى جلاب همى"، و"الصبى حمال المصايب والبنت بلوة ع الأهل وع القرايب". ويحتفل الأهل بسبوع الولد بأبريق فخم مذهب أما البنت فبمجرد قلة بالطبع لكسرها وراها بعد أن تذهب لبيت الزوجية. ويظل العقل الجامعى الذى ينبض بكراهية واحتقار المرأة يضغط على الجميع فتقتنع الأنثى بأنها بالفعل هم وإبتلاء، ويقتنع الرجل بأن طلاق من تنجب إناثا هو حق شرعى لأنه مش ناقص هموم و بلاوى أو على رأى المثل: "المشرحة مش ناقصة قتلى"!
أعتقد أن الطريق بعد ذلك أصبح ممهداً ومعبداً لأن تجرى عليه عربات العنف والاضطهاد ضد المرأة بسرعة الضوء. وإذا كنا قد عرفنا العنف فى الفصل الماضى ونحن نناقش أعنف سلوك بربرى وهمجى تتم ممارسته ضد الطفلة المصرية وهو الختان، فإننا سنحاول قبل التعرض لصور العنف الأخرى أن نناقش أنواعه وأسبابه ودواعيه.
فى دراسة هامة للدكتورة إقبال السمالوطى عن أنواع ودوافع العنف ضد المرأة والطفل حاولت تصنيف أنواع ذلك العنف من أربعة مداخل أو وجهات نظر:
1. من حيث القائمين: والمدهش أن المرأة نتيجة تزييف الوعى المزمن على مدى تلك السنوات تمارس أحيانا عنفاً ضد بنات جنسها فمثلاً فى حالة الختان تجر الأم بنتها بعنف لكى تختتن لأنها ترى أن فى ذلك صالح ابنتها ومصدر عفتها وشرفها.
2. من حيث نوعية العنف: هناك عنف جسدى أو مادى بالضرب والاغتصاب وهناك عنف معنوى بالسب والإهانة والتجريح والسخرية.
3. من حيث مدى شموله: عنف فردى يتم نتيجة لترويج فكر جماعة عقائدية معينة تحمل ااحتقارا شديداً للمرأة وتلبس هذا الاحتقار وتسبغ عليه رداءاً فكرياً عقائدياً مكذوباً.
4. من حيث الدافع للعنف: هناك عدة دوافع للعنف منها الإحباط كوسيلة لدفع الفشل، أو الحرمان سواء مادى أو معنوى كوسيلة تعويض، وقد يكون الدافع للعنف هو إظهار الرجولة أو الرغبة فى الانتقام من الذات.
أما العوامل البيئية التى يحاول بها علماء الاجتماع تفسير دوافع العنف تجاه المرأة والطفل فهى كثيرة نلخصها فى النقاط التالية:
أولاً: نظرية الضغط البيئى: وهذه النظرية ترى أن الضغوط البيئية المختلفة سواء كانت زحاماً أو ضوضاء أو تلوث أو خلافه من ضغوط البيئة تؤثر إذا زادت عن الحد وقدرة التحمل فسوف تؤدى إلى انفجار الإنسان وقيامه بأعمال العنف. فمثلا ساكن العشوائيات الذى يعانى من الازدحام وسوء حالة المسكن ونقص الخصوصية وانعدام المرافق والخدمات بالطبع سيمارس العنف. ومن العادى والطبيعى أن يمارسه ضد الضعفاء وفى مقدمتهم النساء والأطفال. وهذه نظرية فى مجملها سليمة ولكنى لا أقبلها على إطلاقها فنحن نرى أن العنف صار يستشرى حتى فى أكثر الطبقات ثراء وتعليماً، مما يدل على أن تيار العنف ضد المرأة صار تياراً فكريا مقبولا إلى حد ما وله مبرراته التى يقدمها البعض على أنها من العرف أو من التقاليد أو من الأخلاق أو من الدين وهذا مكمن الخطر.
ثانيا: نظرية الموارد الاجتماعية: ترى هذه النظرية أن الصراع بين البشر يزداد مع زيادة عدد السكان بمعدل أكبر من معدل تزايد الموارد البيئية، ومن هنا يتم الصراع والتنافس على هذه الموارد المحدودة ويتولد العنف. وحيث أن رقعة مصر الزراعية فى حدود 6 مليون فدان ثابتة لا تتزعزع فى نفس الوقت الذى يتضاعف فيه عدد السكان بشكل سرطانى مما يساعد على إزدياد ظاهرة العنف وخاصة نحو الأضعف كما ذكرنا المرأة والطفل.
ثالثا: نظرية الحرمان البيئى: البيئة لا تشبع حاجات أبنائها تدفعهم دفعاً نحو العنف، هذا هو ملخص تلك النظرية الصحيحة إلى حد كبير، فيكفى أن ننظر إلى حرمان الصعيد من الخدمات والاستثمارات مقارنة بالوجه البحرى و انعكاس ذلك على نسبة العنف وانتشاره.
رابعا: نظرية الإحباط: البيئة المحبطة بيئة تفرخ العنف، فالفرد الذى لا ينجح فى تحقيق ذاته من خلال عمل أو أسرة هو صيد سهل لممارسة العنف.
خامسا: نظرية المهمشين: هذه النظرية ترى أن من هم على هامش المجتمع والمهملين من قبل الدولة أكثر المواطنين ممارسة للعنف، فالتجاهل هو مشتل العنف ومحرض الانتقام، وبالطبع يمارس الهامشى عنفه ويخرج عقده على من هم أكثر هامشية المرأة والطفل.
سادسا: نظرية التعليم: العنف سلوك مكتسب من الممكن تعلمه من البيئة المحيطة أو من على الشاشة.. إلخ. وهذا يلقى اللوم على وسائل التعليم والإعلام فى تقديم العنف كسلوك مقبول أو على الأقل متعود عليه.
هذه النظريات من الممكن أن تفسر لنا وتجيب على سؤال لماذا العنف ضد المرأة؟، ولكنها لا تستطيع الإجابة على سؤال لماذا التمييز ضدها؟. ذلك التمييز الذى يبدأ كما ذكرنا من قبل الولادة أثناء الاستعداد الذى تختلف مفرداته بالنسبة للولد عنه بالنسبة للبنت، وبعدها يبدأ الأهل بالتعامل بشكل مختلف مع كل منهما على حدة وتنتقل خبرات حياتية مختلفة تجعل الاستجابات مختلفة هى الأخرى. فالبنت لها العروسة وأدوات المطبخ اللعبة، والولد له ألعاب الذكاء والمهارة، والفك والتركيب والمسدسات. وبعدها تأتى المدرسة لترسيخ قيمة التفوق الذكورى، وتؤكد على هذا المفهوم الدكتورة رفيقة حمود التى تقول تخضع الفتاة منذ طفولتها لتربية صارمة تتطلب منها الطباع اللينة، والنعومة فى الكلام، وانخفاض الصوت عند الضحك، فى حين تترك للصبى حرية الكلام والقهقهة والتصرف. ويدرب الصبى ليكون شجاعاً قوياً لا يبكى، وتوجه البنت لتكون سلبية متقبلة ضعيفة، وقد بينت الدراسات على سبيل المثال أن الأهل يحاولون استثارة نشاط الصبى وعدوانيته، ويسخرون منه إذا بكى أو خاف، ويتسامحون معه إذا تسلق الأشجار والجدران، فى حين يرفضون أن تكون البنت كثيرة الحركة ومتمتعة بالحيوية والاستقلالية، ويؤنبونها على كثير من التصرفات التى يتسامحون فيها مع الصبى ويحاولون تعديل سلوكها، ويشجعونها لتكون هادئة ومطيعة. وبالإضافة إلى ما سبق يفرض على الفتاة طابع من السرية والتكتم فهى الستر الذى لابد له من غطا، ودلالها وتدليلها خطأ وفضيحة: "دلل الحية ولا تدلل البنية"!، ويتم تدريب البنت بكل إصرار على خدمة ذكور الأسرة بما فيهم إخوتها الأصغر منها. وبالطبع يكون هذا مقدمة لتدريبها على دور الزوجة المطيعة التى لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم إلا عندما يسمح لها. وكما يقول المثل العربى: "تلاته بيطولوا العمر: الدار الوسيعة، والفرس السريعة، والمرأة المطيعة"، وأيضا يشمل هذا التدريب المبكر للطفلة على دورها المستقبلى إجبارها على ترك اللعب بل والدراسة فى بعض الأحيان وذلك للتفرغ لمساعدة الأم فى الأعمال المنزلية، فى حين يحصل الولد على وقت أكبر للتركيز واللعب وينطلق خارج المنزل إلى العالم الخارجى الذى ينمى قدراته. والمدهش أن التمييز يمتد إلى طريقة العقاب، تقول الباحثة أميرة بهى الدين: "عندما تعاقب الأسرة صغارها تميز فى ذلك بين الصغير والصغيرة سواء، من حيث سبب العقاب، أو من حيث جسامة العقاب وتكراره، فالصغيرة تلازم أمها فى المنزل فتفجر الأم فيها كل إرهاقها وآلامها الدفينة بسبب مشاكلها الأسرية الخاصة، بخلاف الصبى الذى يكون خارج المنزل يدرس أو يلهو أو يعمل، فالأم لا تقسو على ابنها الذكر سواء لإعجابها الدفين برجولته المبكرة، أو لأنها تخشى فراره منها إن هى قست عليه. فى حين تتوقع من الفتاة الطاعة والتفانى وإنكار الذات. إنه العنف المنظم المعوق للفتيات القاتل لاستقلاليتهن والمهدر لطاقتهن الإبداعية. ثم تأتى وسائل الإعلام التى تقدمها على أنها مخلوق هيمان فى عالم الأحلام، وشخصية سلبية مترددة تفتقد إلى أدنى درجات التفكير العقلانى لا هم لها إلا البحث عن الرجل وضله لإمتاعه الجنسى. وتمثيلية "الحاج متولى" ليست بالبعيدة عنا. وتقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى دراسة نشرت لها عام 2000 أن 80% من برامج المرأة فى التلفزيون تتناول فن الطهى والحياكة والموضة وتربية الأطفال وفن الديكور، وكأن هذه المسائل هى قضية المرأة الأساسية وزادها اليومى. وهكذا يزيد إيقاع التعامل معها كدمية وموديل ومادة للمتعة، وتكرس الدونية التى هى الباب السحرى لولوج التمييز المؤدى إلى العنف.
من أبرز مظاهر العنف ضد الطفلة الأنثى التمييز فى التغذية والعناية الصحية، فبرغم الجهد الملموس للدولة فى رعاية الطفل الصحية سواء فى توفير التطعيمات والأمصال أو فى توفير محاليل الجفاف والأدوية وتعميم التأمين الصحى، إلا أن التمييز الاجتماعى قد أصاب الطفلة الأنثى بالضرر الصحى من ناحية سوء التغذية أو إهمال الرعاية الصحية السليمة. فالكثير من الأمهات يحرصن على إرضاع الصبيان لفترة أطول من تلك التى تخصص للبنات. وفى معظم الأحيان تحرصن على تقديم لحوم أكثر للصبى عن أخته وتتلهفن على الذهاب للطبيب بالولد أسرع من البنت. وفى كل التقارير العربية يتضح بجلاء أن نسبة وفيات البنات فى السنوات الأولى أعلى من نسبة وفيات الذكور، والأنيميا نسبتها أعلى فى الإناث عن الذكور. وفى دراسة لليونيسيف على المنطقة العربية 1995 اتضح أن نسبة البنات اللواتى يعانين من الأنيميا تزيد 2.3% عن البنين، كما وجد أن 25% من الفتيات فى سن المراهقة يعانين من نقص نسبة الحديد، فضلاً عن زيادة نسبة التقزم، ونقص البروتين نتيجة لممارسات التغذية المتحيزة للبنين. وفى دراسة أجراها عادل سلطان وناهد رمزى على إحدى القرى المصرية وقدماها لجمعية التنمية الصحية والبيئية 1999 ، ذكر أنه عند توزيع الطعام داخل الأسرة أثناء شهر رمضان وعيدى الفطر والأضحى يحصل الأب على 32% من إجمالى الطاقة الغذائية التى تستهلكها الأسرة، فى حين تحصل الأم على28.8% من هذه الطاقة كما يحصل الأب على 32.9% من إجمالى عنصر الحديد فى غذاء الأسرة، بينما لا تحصل الأم سوى على 29.1% من هذا العنصر. وتوجد دراسات أخرى تشير إلى أن معدل انتشار الأنيميا بلغ 22.1% بين الحوامل و 25.3% بين النساء المرضعات.
ومن عنف التمييز الغذائى والصحى الذى من الممكن ألا يكون ملموسا لدى الكثيرين إلى عنف أخر أكثر وضوحا وأوسع تأثيراً وأفدح خطراً، ألا وهو التمييز فى فرص التعليم، فتعليم الولد واجب أما تعليم البنت فهو عند البعض ترف، وتعليم الولد لن يفسده أما تعليم البنت فقد يفسدها ويفتح عينيها وكأننا كنا نتمنى ولادتها عمياء. وتعليم الولد مباح حتى فى المدارس البعيدة عن القرية أما تعليم البنت فيجب أن يكون جنب البيت فإذا لم يتوفر هذا القرب فجلوسها فى البيت أفضل. و إذا تعثر الولد فيجب أن يعيد السنة أما البنت فتعثرها لا يتطلب إعادة أو تحسين مجموع ويقرر الأهل أن يتاووها فى أى جراج مدرسى حتى تحصل على دبلوم التجارة.. "مش آخرتها حتتجوز وتقعد فى البيت"؟.. إلخ. وسيادة هذه المفاهيم فضلا عن أنها تتعارض مع أبسط القيم الإنسانية فهى تتعارض أيضا مع المواثيق الدولية التى وقعنا عليها مثل اتفاقية حقوق الطفل والتى سيأتى ذكرها كثيرا فى حلقات دراستنا، وهى تنص فى المادتين 28 و29 على عدد من البنود أهمها:
1- تعترف الدول الأطراف بحق الطفل فى التعليم، وتحقيقاً للإعمال الكامل لهذا الحق تدريجيا ، وعلى أساس تكافؤ الفرص، تقوم هذه الدول بما يلى:
أ. جعل التعليم الابتدائى إلزاميا ومجانياً.
ب. تشجيع تطوير شتى أشكال التعليم الثانوى سواء العام أو المهنى، وتوفير الأشكال وإتاحتها لجميع الأطفال، واتخاذ التدابير المناسبة لذلك، مثل إدخال مجانية التعليم وتقديم المساعدة المالية عند الحاجة إليها.
ج. جعل التعليم بشتى الوسائل المناسبة متاحاً للجميع على أساس القدرات.
د. جعل المعلومات والمبادىء الإرشادية التربوية والمهنية متوافرة لجميع الأطفال وفى متناولهم.
هـ. اتخاذ التدابير لتشجيع الحضور المنتظم فى المدارس والتقليل من معدلات ترك الدراسة.
2- تتخذ الدول الأطراف التدابير المناسبة لضمان إدارة النظام فى المدارس على نحو يتمشى مع كرامة الطفل الإنسانية.
3- تقوم الدول الأطراف بتعزيز التعاون الدولى وتشجيعه فى الأمور المتعلقة بالتعليم وبخاصة من أجل هدف الإسهام فى القضاء على الجهل والأمية.
4- توافق الدول الأطراف على أن يكون تعليم الطفل موجهاً نحو: أ. تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكانياتها.
ب. تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات ومبادىء حقوق الإنسان. ج. تنمية الاحترام لهوية الطفل الثقافية ولغته وقيمه الخاصة، وأيضا الحضارات المختلفة عن حضارته.
د. إعداد الطفل لحياة تستشعر المسئولية فى مجتمع حر، بروح من التفاهم والتسامح والمساواة بين الجنسين.
ولكن هل تحققت تلك المساواة المزعومة؟ الحقيقة لا، فالمفارقة صارخة وحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 1999 هناك أكثر من 130 مليون طفل فى البلدان النامية محرومون من حق التعليم، وللأسف ثلثا هذا العدد من البنات أى حوالى 87 مليون طفلة. وكذلك يشير نفس التقرير إلى أن سدس سكان العالم أميون ومعظمهم فتيات. وهذا بالطبع انتهاك لحقوق الإنسان وإهدار لطاقات المرأة الفاعلة وتبديد لقوى إنتاجية مؤثرة فى المجتمع. وإذا انتقلنا من المستوى العالمى إلى المستوى المحلى هنا فى مصر سنجد أن الصورة ليست وردية، بل قاتمة وأننا بالفعل ما زلنا بعيدين عن مستوى ونسب الدول المتقدمة فى التعليم، فالنساء يشكلن 66% من إجمالى نسبة الأمية فى مصر. ويصل معدل الالتحاق بالمرحلة الابتدائية للفتيات إلى 79% بفاقد قدره 21% من إجمالى عدد الفتيات فى المرحلة العمرية الموازية. وتزداد نسبة الفاقد لتصل إلى 42% فى المرحلة الثانوية، إذ يصل معدل التحاق الفتيات إلى 58%. والتمييز بين البنات والأولاد فى مسألة التعليم يصل إلى نسب فاضحة ومزرية فالفجوة النوعية فى التعليم بين الذكور والإناث تصل إلى 21%، وذلك بالطبع إنطلاقا من مفهوم المصير النهائى للبنت هو الزواج، وأنها ماكينة تناسل بشرى لابد أن تهيأ لهذه الوظيفة، وتنطلق مقولة: "يعنى اللى قبلك عملوا إيه بالتعليم"؟ وتصدقها البنت الصغيرة وتظل منذ نعومة أظفارها تؤهل نفسها لهذا الدور فتهمل الدراسة ولو تفوقت فهى تتفوق هروباً من جو الأسرة الخانق وتطلعاً إلى اليوم الذى تخرج فيه من الأسر. وأحيانا تنجح وكثيرا ما تفشل فدورها الرئيسى كأنثى لا كإنسان كامل الإنسانية لا تتبناه الأسرة فقط ولكن للأسف يتبناه المجتمع ككل وهنا تكمن المأساة.
ونجاح الفتاة فى التعليم سرعان ما يواجه بعوائق وصعوبات مثل بعد المدرسة عن البيت. وتذكر د. ناهد رمزى فى دراستها عن الحرمان من التعليم أثبتت الدراسات فى ريف مصر أنه عندما يزيد بعد المدرسة عن كيلو متر واحد من المسكن فإن معدل التسرب لدى الفتيات يزداد بشكل جوهرى، وقد أشارت الإحصاءات إلى أن معدل تسرب الفتيات من التعليم الأساسى يصل إلى21%.
إن ضمان حق التعليم ليس إجراءا منعشاً للاقتصاد فحسب أو محافظاً على الأخلاق والعدل فقط، ولكنه يشمل جوانب كثيرة ربما تمتد مع الفتاة بعد ذلك طوال حياتها. فعلى سبيل المثال تبين أن هناك إارتباطا واضحا بين تعليم الفتيات وانخفاض معدلات وفيات الأطفال فزيادة نسبة 10% فى تعليم البنات بالمرحلة الابتدائية ترتبط بانخفاض نسبة وفيات الأطفال بنسبة4.1% وفاة فى كل ألف وفاة. كما أن أى ارتفاع مماثل لنسبة البنات الملتحقات بالتعليم الثانوى يمكن أن يؤدى إلى توقع انخفاض آخر مقداره 5.6% وفاة فى كل ألف وفاة. وبالإمكان كذلك أن نترجم كل سنة تعليم إضافية إلى انخفاض فى معدل الإنجاب علاوة على نقص فى وفيات الأمهات بسبب الحمل والولادة.
لكن تظل المأساة الأكبر وهى أن العنف ينتقل من البيت خارج المدرسة إلى داخل المدرسة حيث تمارس سلوكيات عنف وقسوة ضد الفتاة داخل أسوارها لدرجة أن 50% من عمالة البنات الصغيرات سببها الهروب من قسوة المدرسة، وغير بعيد عن الذاكرة ظاهرة الإغماء الجماعى الذى كان يحدث فى مدارس البنات فقط منذ عدة سنوات، والذى دل على أن عملية تشكيل شخصية تلك الفتيات داخل المدارس بها خلل خطير أدى إلى إنتاج نفسيات هشة ومعقدة وهستيرية مما يفرض على علماء التربية النظر بعين الاعتبار إلى وضع قواعد للتعامل مع البنات الصغيرات داخل المدرسة تحترم الجانب النفسى قبل الجانب التلقينى.
أتمنى ألا نكسر للبنت ضلع لأنها لن تعوضه بضلعين، بل ستعوضه بحزنين، و ارتعاشتين، وترددين، وإنكسارين، وشجنين، وإغترابين، ودمعتين، وصمتين. فالضلع وراءه القلب وقلبها لن يحتمل أكثر من عنف. وإن حدث ذلك فهى حتماً ستضع مكان القلب عصفوراً ذليلاً لتتحول الضلوع إلى قضبان، والصدر إلى زنزانة والقلب إلى مآقى دموع.
عمل الطفلة سخرة مقنعة
الرزق الجديد .. عنف مستتر وعبودية جديدة
عندما أثيرت قضية تعذيب خادمة وفاء مكى فى جميع وسائل الإعلام تم التركيز على الجانب البوليسى فيها، وطرحت الأسئلة ذات اليمين وذات اليسار عن هل عذبت وفاء الخادمة وهل هى بريئة أم مذنبة؟ وهل الخادمة صادقة أم كاذبة ومدعية؟ كيف تظل الخادمة فى الحمام ولا تصرخ للنجدة؟، وكيف تستطيع الأم المريضة أن تقيد الخادمة؟، وكيف نقلت الخادمة للقرية؟، وما هو تقرير الطب الشرعى؟ وما هو مقدار التعويض الذى أخذه الأب؟.. إلخ. هذه الأسئلة وغيرها والتى انهمرت كالشلال مكتسحة فى طريقها السؤال الموضوعى الذى كان لابد أن نسأله لأنفسنا قبل هذه الاستفهامات المباحثية. السؤال هو لماذا عملت مروة الطفلة بنت العاشرة كخادمة فى بيت وفاء مكى من الأصل؟ ولماذا أرسلها أبوها هى وشقيقتها للعمل هناك؟. بالطبع إنه الفقر، ولكن هل الفقر هو الذى أصابنا نحن المثقفين بالتنويم المغناطيسى والغيبوبة حتى ننسى أو نتناسى طرح هذا السؤال أم أنه الخوف من فتح هذا الدمل المتقيح بصديد اللامبالاة والقسوة والذى يديننا قبل أن يدين الأب أو مروة أو حتى وفاء مكى؟!. وهل لو لم تعذب مروة وأمثالها من الخادمات الصغيرات فهل عملها كخادمة من الناحية الإنسانية والقانونية والاجتماعية صحيح؟. وإذا لم يكن هناك قانون يحظر عمل الطفلة كخادمة فلماذا لا يصدر قانون يحظر هذه السخرة الجديدة؟. وهذا هو السؤال الحقيقى الذى تاه فى وسط هيستريا بحثنا الدائب عن جانب الفضيحة والنميمة فى أى قضية نناقشها لنختزل هذه القضية وغيرها لتظل أسيرة نظرة أنانية ضيقة كالطائر مقصوص الريش لا يستطيع التحليق فى الفضاء المتسع، وتفشل فى أن تصبح قضية اجتماعية تتصدر المشهد الوطنى وتبقى كمعظم قضايانا الاجتماعية الهامة مادة نميمة تتصدر أخبار الحوادث.
يقول بهى الدين حسن فى ورقته المقدمة لليونيسيف 1994 عن الطفلة الخادمة عندما تعمل الصغيرات كخادمات فى المنازل- وهو عمل بالغ الانتشار فى مصر- يحرمن من أسرهن، ويحتجزن فى أسر غريبة عنهن، يقدمن لها خدمات لا تتناسب مع أعمارهن، ويتعاملن مع أجهزة معقدة ويحملن الأثقال، ويخدمن الأطفال الذين هم فى مثل عمرهن أو يزيد، يحملن حقائبهم المدرسية، ويرتدين ثيابهم البالية، ويأكلن ما يبقى عنهم، ويتحملن العقاب الرادع لأتفه الأسباب، ويقارن أنفسهن بأطفال الأسر التى يخدمونها والذين يلاقون الكثير من الرعاية والتدليل فيشعرن بالقهر النفسى. والخدمة فى البيوت ليست العمل الوحيد للطفلة الفقيرة ولكنها تؤخذ من حضن الأسرة لتعمل أحيانا فى الزراعة أو جنى القطن أو ورش النسيج والملابس وصناعة السجاد والمصانع الصغيرة.. إلخ. إنه استرقاق من نوع جديد تحت سمع وبصر المسئولين ولكن يتم التغاضى عنه برغم وجود القوانين الدولية والمحلية، والتى لابد أن نتوقف عندها ليتذكر المتناسون والمتغاضون والمطنشون!!.
بدأ الاهتمام العالمى بقضية عمالة الأطفال عقب إنشاء منظمة العمل الدولية عام 1919، فتوالى صدور الاتفاقيات التى تنظم اشتغال صغار السن فى الأنظمة المختلفة، وصدرت أول اتفاقية برقم 5 لسنة 1921 بتحديد سن تشغيل الأحداث فى الأعمال الصناعية، مقررة تحريم وتجريم تشغيلهم قبل سن الرابعة عشر فى المنشآت الصناعية. وبمقتضى الاتفاقية رقم 59 لسنة 1948 بألا تتجاوز مدة تشغيل الأطفال دون سن الثامنة عشر سبع ساعات يومياً، وحرم تشغليهم ليلاً. ثم صدر الإعلان العالمى لحقوق الطفل من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 1959 والذى كان بمثابة طوق نجاة لأطفال العالم، وينص المبدأ التاسع من هذا الإعلان على أنه من الواجب ألا يبدأ استخدام الطفل قبل بلوغه سناً مناسبة، كما يجب ألا يسمح له بأى حال من الأحوال أن يتولى حرفة أو عملاً قد يضر بصحته أو يعرقل وسائل تعليمه، أو يعترض نموه من الناحية البدنية أو الخلقية أو العقلية. وكذلك تؤكد اتفاقية حقوق الطفل 1989 والتى صدقت عليها 160 دولة من ضمنها مصر، تنص فى المادة 32 على ما يلى:
تعترف الدول الأطراف بحق الطفل فى حمايته من الاستغلال الاقتصادى، ومن أداء أى عمل يرجح أن يكون خطيرا، أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل أو أن يكون ضاراً بصحة الطفل أو بنموه البدنى أو العقلى أو الروحى أو المعنوى أو الاجتماعى.
وبالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التى وافقت عليها مصر هناك الاتفاقيات العربية، وأهمها الاتفاقية رقم 1 لعام 1966 والتى تناولت موضوع تشغيل الأحداث ضمن المواد من 57 إلى 64، حيث تلزم فى البداية التشريع الوطنى لكل دولة، بتحديد الأعمال التى لا يجوز تشغيل الأحداث فيها من الجنسين قبل 12 سنة، ولا يجوز تشغيل الأحداث فى الأعمال الصناعية قبل سن 15 سنة، باستثناء الملتحقين بالتدريب، وعدم جواز تشغيل الأقل من 17 سنة فى الأعمال الخطرة أو الضارة بالصحة. أما التشريع المصرى فقد اعتنى بالطفل من كافة جوانبه النفسية والاجتماعية والصحية حيث ألزم الدستور الدولة بحماية الأمومة والطفولة وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم. كما أولى رئيس الجمهورية الطفولة إهتماماً خاصاً عندما أصدر عام 1988 قراراً بإنشاء المجلس القومى للطفولة والأمومة، وكذلك عندما أعلن عن عقد حماية الطفولة منذ 1989، وتتابع السيدة سوزان مبارك بمجهوداتها العظيمة رعاية مبدأ الاستمتاع بالطفولة وتوفير كل الظروف المناسبة لازدهارها.
وقد سنت القوانين منذ سنة 1909 لتنظيم عمل الأطفال حيث صدر القانون رقم 14، ثم صدر قانون رقم 48 لسنة 1923 وكان السن المحظور وقتها أقل من 9 سنوات، ثم ارتفع سنة 1959 إلى 12 سنة، ثم عام 1981، ثم صدق مجلس الشعب عام 1996 على قانون الطفل وفيها يحظر عمل الأطفال قبل 14 سنة ويجوز بقرار من المحافظ المختص بعد موافقة وزير التعليم الترخيص بتشغيل من دون الثانية عشرة فى أعمال موسمية بحيث لا تخل بتعليمهم أو بصحتهم. ولا يجوز تشغيل الأطفال أكثر من ست ساعات فى اليوم، ويجب أن تتخلل ساعات العمل فترة أو أكثر لتناول الطعام والراحة لا تقل فى مجموعها عن ساعة ويحظر تشغليهم فى أيام الراحة أو العطلات الرسمية، وأيضا لا يجوز تشغليهم فيما بين الساعة الثامنة مساء والسابعة صباحاً.
لكن هل التزمنا حقاً بهذه القوانين والالتزامات أم أنها صارت حبراً على ورق؟. الواقع يثبت أننا فى كثير من الأحيان قد حولناها لحبر على ورق. وبالطبع أتحدث عن الأطفال من الجنسين ولكن لأننا نناقش فى هذه الدراسة العنف ضد المرأة فسيتم التركيز على الطفلة الأنثى، وأيضا لأنها الضحية الأكثر تعرضا للتعويق الاجتماعى والتشويه النفسى والتسرب التعليمى من الطفل الذكر. وتقدم النتائج التى توصل إليها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ونشرتها د. ناهد رمزى عن ظاهرة عمل الأطفال فى الورش الصناعية صورة صارخة البشاعة عن ظروف عمل الفتيات الصغيرات، فقد ارتفعت بينهن نسب العاملات فى المواد الكيماوية 54% كالعمل فى المدابغ وصناعة الخراطيم ومواسير البلاستيك والصباغة، و 32% فى الأفران. وبينت دراسات الحالة أن هذه الورش تتسم بظروف غير مناسبة للعمل نتيجة لقلة الإضاءة وضعف التهوية و انتشار الروائح النفاذة وارتفاع الضوضاء بما يمثله ذلك من مخاطر جسدية ونفسية شديدة عليهن خاصة أن هؤلاء الفتيات كن يمضين كل يومهن فى العمل داخل الورشة. وتزداد الجوانب السلبية بخلو تلك الورش من احتياطات الأمن الصناعى، فقد أثبتت الدراسة أن 91% من الأطفال العاملين فى المهن الخطرة لا يرتدون ملابس خاصة ولا يستخدمون أدوات واقية من مخاطر العمل. كذلك بينت الدراسة أن 40% من تلك الورش تخلو من أبسط أنواع أجهزة الأمان كطفايات الحريق، و أن 50% من هذه الورش تخلو من أدوات الإسعاف الأولية التى تحتاجها فى حالة إصابة أحد العمال.
وقد أشارت نتائج دراسات أخرى أن 36% من الفتيات اللاتى يعملن فى صناعة السجاد يعانين من مشكلات بصرية ومن إعاقة جسمية ومن أمراض صدرية، كما أن أوزانهن تقل عن الوزن الطبيعى للفتيات فى أعمارهن نفسها. كما أن هناك فرقاً فى الطول (يعكس نقصا فى النمو) يبلغ من 2 - 4 سم، وذلك بالمقارنة بالفتيات المناظرات لهن فى العمر واللاتى لم يسبق لهن الالتحاق بأى عمل. وفى الأعمال الزراعية تزداد المعوقات حيث تستخدم الفتيات بصورة كبيرة وخطيرة وفى أعمال شاقة مثل رش الأسمدة والمبيدات والحصاد والعناية بالحيوانات وحمل صناديق الخضروات وغيرها من الأعمال المضنية.
ومشكلة عمالة الأطفال مشكلة عالمية بدأت تشكل خطراً كبيراً وباتت تمثل قلقاً مزمناً فى ضمائر الأمم لدرجة أن بعض البلاد بصدد إصدار تشريعات بحظر منتجات من صناعات تستخدم عمل الأطفال. وهناك أكثر من 120 مليون طفل فى العالم يعملون وقتاً كاملاً من عمر 5 إلى 14 سنة. ويمثل الأفارقة 40% من هذه النسبة. أما فى العالم العربى فقد وصل عدد الأطفال فى سوق العمل نحو عشرة ملايين طفل عربى فى عام 2000. وقد أرجع الباحثون عمالة الطفل بهذه الصورة المضطردة إلى تلك العوامل:
العوامل السكانية: يربط البعض بين عمالة الأطفال وبعض الظواهر السكانية مثل ارتفاع معدلات الإنجاب والهجرة من الريف إلى الحضر.
انخفاض المستوى التكنولوجى: قد يكون هناك ارتباط بين عمالة الأطفال وبين انخفاض المستوى التكنولوجى فى القطاعين الزراعى والصناعى، فضلا عن انخفاض أجور الأطفال، وكفاءتهم فى أداء بعض الأعمال مثل جمع القطن والأعمال المساعدة فى الورش الصناعية.
ولكن هذه العوامل يعتبرها البعض فى مجملها لا تعدو أن تكون عوامل جذب وليست عوامل أساسية، ويرجعون العوامل الأساسية إلى عوامل تعليمية أو اقتصادية، ويركزون على التعليم كسبب أساسى. فالفشل فى التعليم أو الرغبة فى تعلم صنعة بديلة للتعليم هو سبب رئيس ومهم، ثم تأتى الحاجة لمساعدة الأهل فى مصروف البيت أو رغبة الطفل فى الحصول على مال ينفقه على نفسه ومتطلباته الشخصية. كما أن هناك أسباب فرعية مثل أن العمل أفضل من اللعب فى الشارع، وعدم الرغبة بالجلوس فى المنزل، أو بسبب وفاة أحد الوالدين أو الرغبة فى التجهيز للزواج.. إلخ.
وفى دراسة الدكتور أحمد عبد الله القيمة والمهمة عن عمالة الأطفال أجراها فى مدابغ مصر القديمة وجد أن 90% من أسباب عمالة الأطفال فى رأى أرباب الأسر ترجع إلى الفقر، وحوالى 50% فى رأى الأطفال أنفسهم تعود للفشل فى التعليم، وطبقا للأرقام التى ذكرتها نفس الدراسة يتضح أن القوة العاملة للأطفال تمثل 29% من مجموع أطفال مصر فى الفئة العمرية من 6 إلى 14 سنة، وهى نسبة رهيبة لأنها استغلال بكل ما تحمله كلمة الاستغلال من معنى ،وبحسب تعبير مدير عام منظمة العمل الدولية 1983 الذى لخص أوجه الاستغلال فى توظيف الأطفال فى مهام أو فى ظل ظروف تعرض حالتهم الجسدية والعقلية للخطر، واستقطاع للأرباح من عمالة الأطفال عن طريق دفع أجور منخفضة لهم، وإنكار حق الأطفال فى اللعب والتعليم والاستمتاع بطفولة طبيعية. ويكفى أن نذكر حالة الطفلة منى عبد الغنى فى هذه الدراسة والتى بدأت العمل فى المدابغ فى سن ثلاث سنوات ونصف وكان أجرها فى سن الرابعة والنصف خمسة جنيهات فى الأسبوع، وكانت عينة البحث على خمسين طفلاً منهم أربعين بدأوا العمل قبل العاشرة.
وبما أننا لا نعترف بالآثار النفسية لعمالة الأطفال ونعتبرها دلع ومياصة عيال، فسنذكر حادثتين توفى فيهما أطفال فى عمر الزهور، الأولى فى عام 1991 فى الحوامدية بالجيزة حين لقى 11 طفلا مصرعهم فى انقلاب عربة كانت تقلهم إلى مكان عملهم فى شركة قطاع عام لتكرير السكر. تصوروا؟! قطاع عام؟! يا ناس!. والثانية يوم 7 سبتمبر 1992 حين ماتت فتاتان إحداهما فى العاشرة فى انقلاب عربة أيضا كانت تقلهما من قرية صا الحجرية غربية إلى إحدى مزارع الياسمين الخاصة. وهناك بالطبع مئات الحوادث مثلها تحدث سنوياً ولا حس ولا خبر. وبرغم هذه النهايات المفجعة إلا أن السخرة الجديدة والرق المستتر فى عمالة الأطفال ما زال مستمراً برغم صيحات وصرخات المهتمين والباحثين. وما زالت عينا الطفلة البريئة الخادمة التى تنظر إلى عروسة رفيقتها فى السن والتى جعلها الزمن ستها، ما وزالت هذه النظرة لا تؤرق أحداً، ما زالت يدا البنت المعروقة الجافة من أثر الأنيميا وهى مجروحة من عيدان القطن لا تستفز أحداً، وما زال صدر الأمورة المزيق من الربو فى مصنع السجاد لا يسمع أحداً إلا الأمورة نفسها، فمتى نرى ونسمع؟! أم أننا فى الكهف نائمون وفى العسل غارقون.