لـغــز الـتـغـيـير والاقـتـحــام الأنـثــوي للــوجــود
عندما يلتفت المرء اليوم إلى الراهن الإبداعي والفني وخصوبته الفكرية، يتمثل له تحول الآداب والفنون إلى حرفة وصنعة واستهلاك. لعله جدير بالاهتمام الالتفات إلى علاقة النساء بالإبداع والتساؤل عن مسارهن الفني كمحترفات. فمع هذه التغيرات في تصور الفنون، ومع تتبع التغير الذي طرأ على المفاهيم الذهنية تجاه النساء، ومع تلمس تلازم الفعل الجمالي الفردي بالفعل الجمالي الجمعي وتفاعلهما المتبادل بالحدث التاريخي والوقائع المادية والرمزية؛ تغدو قراءة مواقع النساء على خريطة التمثيل الفني ضرورة لإعادة تقييم موضعهن في الفضاء الاجتماعي في إطار علاقتهن بالآخر. لقد تنبهنا إلى قلة الأبحاث السوسيولوجية الفرنسية التي عالجت علاقة الفرنسيات بالإبداع وبمسارهن المهني كفنانات. لكن دراسات التاريخ الثقافي كانت رائدة في هذا المجال، إذ اهتمت بالمبدعات المميزات كأفراد: كاتبات، رسامات أو مؤلفات للموسيقى، ذلك قبل أن تطرح ضرورة مساءلة تاريخ الفنون في مجمله. إن معرفتنا قليلة حول المسارات المهنية النسائية وماهية وظائفهن ومدى مساهمتهن في تنمية الفنون. ويهتم حاليا علم الاجتماع بالمقاربة الجندرية لمجالات الفنون، وإن ما زالت الدراسات قليلة في هذا المجال، وهو مجال مرشح للتطور. سنهتم بعرض موجز يبين مساهمة النساء والاعتراف بهن في الفنون والآداب، ثم نستعرض بعض المقاربات النظرية والميدانية التأسيسية التي تعكس إيجابيات وسلبيات أوضاع الفنانات. ** من نموذج الملهمات إلى نموذج المبدعات يعد القرن العشرين قرن الاعتراف الرمزي والمهني بإبداعات النساء (Marini 1992)، أسباب عدة اتاحت وصول النساء إلى هذه الاختصاصات الثقافية. أولا: إن جهد النضال النسوي منذ القرن التاسع عشر من أجل تعليم النساء قد أثمر خلال القرن العشرين، إضافة إلى أن اختلاط الجنسين في المؤسسات التعليمية أدى إلى تقييم النساء وفق معايير مماثلة لزملائهن الرجال. ثانيا: إن تطور بنى مجالات الإبداع حيث تكاثرت المسارح ودور النشر والمهرجانات الموسيقية والمعارض التشكيلية، المدعومة من السياسات التنموية الثقافية الرسمية. هكذا شرّع قطاع الإبداع والفنون أبوابه للنساء. ثالثا: إن ازدياد عدد هواة الأنشطة الثقافية، وتطور وسائل الاتصال، شجعا على انتشار الإبداعات الفنية كميا، وخلقا وظائف ثقافية جديدة. والحال إن الانتقال من نموذج النساء الملهمات الذي فرض نفسه طويلا، إلى نموذج النساء الفنانات تم تدريجيا. رغم وجود مبدعات منذ القرون الماضية، إلا أنهن بقين غائبات عن المراجع المعنية بالمؤلفات والكتاب. وجب انتظار نهاية القرن العشرين من أجل الكشف عن السيطرة الذكورية. إن التقسيم الجنسي للمجالات الاجتماعية والثقافية منذ زمن طويل، أبعد النساء عن الأماكن الاجتماعية التفاعلية، التي تتيح ممارسة الأنشطة الإبداعية. وشكل الاختلاف الجسدي مبرر التقسيم الجنسي للعمل: النساء مسؤولات عن النسل والرجال مسؤولون عن السيطرة على أدوات الإنتاج؛ النساء لهن المجال الخاص وتربية الأولاد والفنون البيتية كهاويات، وللرجال السلطة في الحكم والإدارة والتسمية والتصنيف وعرض مؤلفاتهم والاحتراف الفني. هذا التقسيم مسؤول عن استبعاد النساء من ميادين الفنون. وتتضح أكثر أسباب استبعادهن حين نحلل أنماط إنتاج قواعد ومعايير الفنون. الأمر الذي يتيح الحديث عن فرضية ثقافية استبعادية للنساء عن مجالات الإبداع (Escal, Rousseau-Dujardin 1999). كما أن إعادة تركيب الحلقات الناقصة، وتفكيك الأحكام التي تفيد عن غياب العبقرية المؤنثة، تتيح فهم الآليات الاجتماعية والتاريخية التي تنتج عدم مرئية النساء.
إن هيمنة فرضية 'الطبيعة' حول عدم قدرة النساء على الإبداع افضت إلى استبعاد إمكانية وصولهن إلى التعلم في المؤسسات، وأدت إلى عدم الاعتراف بهن. مسار طويل يفصل بين الانتقال من إهداء الرجال النساء كتبهم، إلى حضور النساء كذوات مبدعة. عندما تصبح المبدعة منافسة للرجل في الأدب مثلا، فإن جنس الروائية يُنفى وتؤكد صفات كتابتها الذكورية. للمثال نذكر أن جورج ساند ومارغريت يورسنار أصبحتا من رجالات الأدب، وحكم على كتاباتهن بكونها ذكورية (Naudier2004). إن العملية السحرية في تحول الجنس (مذكر/مؤنث) إلى جندر، وقبوله اجتماعيا في مجالات الآداب والفنون، يدل على هيمنة معايير تشريعية ذكورية تصنف تقييم الجماليات. ;راهنا، فإن فوران إبداعات النساء كشف الهيمنة الذكورية. ورغم وصولهن إلى مختلف القطاعات الفنية، فان المقاومة تستمر، وتستمر المسارات المهنية المجنسة. ومع ذلك فإن نسبة تأنيث مجمل المهن الثقافية يصل إلى نسبة 40 (INSEE 1999) غالبيتهن مدرسات للفنون أكثر منهن مبدعات أو ممثلات. كما نجد النساء بنسب أعلى في أنشطة التكوين والتأهيل والمصاحبة، فهن يشكلن 60 من مدرسي الفنون والموسيقى والرقص. ونجد نسبة عالية أيضا من النساء بين الكتاب حيث يمثلن 46 من الأدباء، وفي نطاق الفن التشكيلي يمثلن30 من التشكيليين (INSEE 2001). نجد فرقا كبيرا في فنون العرض، بين المهن المجنسة (حيث يوزع الدور بين الرجال والنساء) وبين المهن الأخرى غير المجنسة. فنلاحظ تأنيث مهنة الرقص بنسبة 68، ونجد نسبة الممثلات في المسرح 46، بينما لا تمثل النساء في الموسيقى سوى 24 (CESTA). ومع بداية القرن الواحد والعشرين لا يبدو أن حقلا فنيا مقفلا أمام النساء. لذلك نتساءل كيف يدخلن اليوم إلى هذه المهن؟ إن درجة مأسسة التكوين الفني تلعب دورا مهما في دخول النساء إلى الميادين الفنية بقوة. فوجود الأكاديميات التي تدرس الفنون الكلاسيكية، والمعاهد التي تدرس الفنون الحديثة؛ ووجود الاتجاه الفني العالم والاتجاه الفني الشعبي، فإن ذلك قد أفسح المجال أمام تكوينهن المهني. حتى إنه في الأدب حيث لا يلعب دورا مهما التخصص الدقيق فيه، نجد النساء أكثر علما وتحصيلا للشهادات من الرجال. تجدر الاشارة إلى ملاحظتين مهمتين، أولها: حين يكون باب الدخول إلى بعض الفنون واضحا، مثل شركات الرقص والمسرح والاوركسترا السيمفونية المهنية، التي تختار موظفيها عن طريق اختبار الدخول، فإن تقييم النساء ليس دائما لصالحهن. حتى على مستوى مهنة الرقص الأكثر تأنيثا، فإن النساء يواجهن منافسة حادة وتمييزا في الحكم عليهن (Sorignet 2001). بينما طريقة الاختيار التي تتم في الاوركسترا منذ السبعينات، حيث يختبئ المرشح خلف ستارة، سمحت بتوظيف دائم وليس مؤقتاً، لعدد من العازفات في وظائف العزف المنفرد، الذي كانت تغيب عنه النساء فيما مضى (Ravet 2003). ثانيا: في قطاعات فنية أخرى، حين يكون باب الدخول إليها موارب وأقل شكلية، فإن ذلك لا يشكل فرصة ايجابية للنساء، إذ إن الانتماء إلى شبكات، ومعرفة عملاء التوظيف، ومعرفة المهارات المتغيرة، تشكل مجتمعة مفاتيح أساسية للتقدم في عوالم مبنية على أساس العمل الجزئي والعمل على مشاريع محددة. يتوقف إذا، المسار المهني على الانخراط في الأوساط الفنية، لذلك تواجه النساء صعوبات أكثر من الرجال، لأن عملهن مؤقت، ونسبة بطالتهن أكبر، ويتخلل مسارهن المهني انقطاعات، وهن أقل تحصيلا للمال. تلخيصاً، إنها المواصفات العامة التي يتميز بها عمل النساء.
;ثمة تقسيم جنسي ملحوظ للعمل الفني، يتماشى والتمييز الجنسي بحق النساء عموما في الأعمال، ويعاقب تطورهن المهني. فنجد فرزا أفقيا يحشر النساء في حقول فنية محددة، ويؤدي تقسيم العمل الجمالي إلى اعتماد الفنانات التشكيليات في أعمالهن غالبا، وضعية تصويرية أكثر من الرجال (ينحاز الرجال أكثر إلى التجريد أو الفن الطليعي). كما صنفت أعمال مؤلفات المقطوعات الموسيقية، تقليديا،على أنها هامشية. ذلك لأنها تنتمي إلى موسيقى الصالون أو الموسيقى العائلية ولا تنتمي إلى الموسيقى الموجهة إلى الحفلات الجماهيرية (Escal, ; ; Rousseau-Dujardin 1999) ; ; ; فهي على النقيض من المؤلفات 'العظيمة'. في هذا المجال وكما في مجالات أخرى، كان على النساء أن تجابهن الممنوعات كي تؤلفن 'الموسيقى العظيمة' بمساواة مع الرجال. أما فيما يخص مهن التمثيل والرقص، فإن درجة التأنيث تبين اختلافات كبيرة. عالم الرقص مؤنث جدا وقليلا ما مارس التمييز في توزيع الأدوار. وعلى العكس، نلاحظ تقسيما قويا للأدوار بين الموسيقيين والموسيقيات، كما رأينا. تتجه النساء أكثر من الرجال إلى مهن الغناء والموسيقى الشعبية، وعدد قليل منهن يصبحن عازفات محترفات. ففي عالم الموسيقى العالمة، تحتفظ الآلات الموسيقية بهوية مجنسة، تشترط التخصص على الآلة وتؤثر لاحقا في توزيع الوظائف. كما نجد فرزا عموديا تمييزيا يبعد الفنانات عن وظائف السلطة والنفوذ، الأكثر اعترافا بها والأكثر درا للمال. ففي المهن الموسيقية تشغل الموسيقيات وظيفة مصاحبة، ولا تشغلن إلا بنسب ضئيلة وظائف العزف المنفرد (نسبة الرجال 80 في العزف المنفرد)، ونادرا ما مارسن أعمالا إدارية (رئيسة فرقة موسيقية، الخ.). في التمثيل المسرحي، حيث الرجال والنساء حاضرون على قدم المساواة، نرى غالبية المخرجين رجال (75). يشذ عالم الرقص وحده عن هذا المنحى، فالنساء ممثلات في الوظائف التنفيذية أيضا. لا تتوقف الصعوبات عند هذا الحد، إذ تضاف إليها المسؤوليات المنزلية، والنشاط المهني الذي يؤمن مصدر عيشهن (تعليم، صحافة، عمل في دور النشر، الخ.) وكذلك مدى امكانية تثمير الجهود في النشاط الإبداعي الذي يقبله الشريك على مضض. هكذا تضطر النساء إلى ممارسة الفنون بشكل متقطع، وعلى حساب عدم ظهورهن بشكل جلي. ** قواعد الاعتراف تنظم التخصصات الفنية جملة من القواعد التي تقيم الأعمال وممارسيها، والتي تنطق بالكيفية التي يكون معها ممكنا التفوق في معهد الموسيقى والمسرح، والوصول إلى النجومية في الرقص، والوصول إلى صالات العروض والمتاحف في الفن التشكيلي، والحصول على جوائز أدبية؛ إنها عوامل تروج لتفرد الفنانين والمبدعين، من شأنها أيضا إيضاح التمييز الجنسي لعملية التكريس والاعتراف. صحيح أن الرجال والنساء خاضعون للتقييم، لكن وفق تمييز جنسي. والدليل على ذلك إضافة إلى ما أدرجناه، أن عدد الرجال الحاصلين على الجوائز الأدبية يتجاوز بكثير عدد النساء، ومؤلفات المقطوعات الموسيقية أقل تمثيلا، وعروض الفنانات اقل حدوثاً. ذلك لا يمنع من ملاحظة حضور مبدعات مستقلات وملتزمات بقضايا مجتمعهن منذ الخمسينات، قد وقعن العرائض والبيانات. يبدو أن تكون مطلوبا وان توقع عريضة لهو مؤشر على الاعتراف والتكريس. لكن تبقى علاقتهن بالنسوية متجاذبة وملتبسة. فأن يذكر دور العمل الفني في الوصول إلى العالمي، فهذا أمر لا خلاف عليه، لكن في الحقيقة، يراهن الفنانون أيضا، على الاعتراف بتميزهن وتفردهن الجمالي. فبواسطة تملك الجسد الأنثوي وتمويه حدود النوع، شارك بعض الفنانات في التطور السياسي والاجتماعي لانطلاقة النساء. ورفع بعضهن الآخر الهوية كعلامة فارقة للتمييز. .
إن التنظير الجمالي لكتابة النساء سجل حضور كاتبات طليعيات في السبعينات. إن وصولهن إلى وسائل الإنتاج الفني وابتداعهن سجلاً خاصا للتكريس (دور نشر ومهرجانات وجوائز تعنى بإنتاجهن) فإن المبدعات عدلن في اتجاه نظام القيم الذكوري، وساهمن في مجابهة طغيان أحكام تستبعد الأعمال النسائية. إن المقصود من إظهار إبداع النساء إعادة صياغة الهويات الجندرية، وإعادة التفكير في مقولة الفن العالمي نفسها. في هذا الخصوص فإن تأريخ العلاقات الاجتماعية بين الجنسين في حقل الفنون مهم جدا لمساءلة نماذج بناء التراتبية الجمالية. ** إشكاليات ومقاربات متنوعة تتساءل مقاربات عدة عن مواصفات الاختلاف بين الجنسين في عالم الإبداع، وتمهد لتطوير حدود حقل بحثي مهم. للمثال، نجد مقاربة تساءل التمثلات المرتبطة بالأنوثة والذكورة، والصور السائدة عن النساء في المجتمع المعاصر. تمتزج هذه المقاربة بالمقاربات التاريخية والثقافية والتاريخ الاجتماعي للفنون، فتساؤل العلاقة بالسياسي وبصور السلطة، وتشير إلى تنوع النماذج النسائية في السينما (BURCH, Sellier 1996) والمسرح ;(Evain ; 2001) والأدب (Heinich 1996). ساهمت هذه الدراسات المركبة في سد الثغرات في تاريخ الفنون والموسيقى. واعتنت دراسات أخرى بتحليل طريقة عمل الحقل الفني، وأنماط الوصول إليه، وآليات التكريس التي يتبعها. تعيد هذه الدراسات الكمية والنوعية تأليف المواقف في الحقل الفني وتحلل الخطابات السائدة وفق مواقع المقابلين. وتتساءل عن الإعاقات الخاصة التي تواجهها النساء في مختلف القطاعات الفنية من أجل الوصول إلى المواقع المهمة التي ترضي قدراتهن. ترسم الاستقصاءات حول المهن الفنية لعدة مجموعات من الفنانين، من زاوية الوظيفة والموقع واستغلال المصادر المؤسساتية، خريطة المواصفات الاجتماعية والسكانية لهذه المجموعة، والمراحل المهنية والمسارات النموذجية. فاهتمت بخصوصية المسارات الفنية النسائية، حين ارتبطت الاختلافات بعامل الجنس. لقد أنتج مركز سوسيولوجيا العمل والفنون عدة أبحاث من هذا النوع. وأفسحت بعض الأعمال الرائدة مكاناً للتساؤل الجندري حول اختلاف المهن بين الرجال، والنساء والتقسيم الجنسي للأدوار. واهتم بعضها الآخر بتأنيث المهنة الموسيقية. أو بعلاقات الرجال والنساء. وفضلت أعمال أخرى دراسة مسارات الفنانات المهنية وصيرورتها، اعتمادا على تحليل سيرهن، حيث أعيد تأليف مساراتهن النموذجية وغير النموذجية، ذلك بموازاة تحليل زمني يظهر انفتاح فضاءات الفنون في وجه النساء. أن هيمنة الاعتقاد بتدني 'طبيعة' النساء في الاختصاصات الفنية، تعود إلى الاعتقاد الذي كان سائدا عن المواهب الفطرية للمبدعين، بينما يسود اليوم الاعتقاد عن فعالية المؤسسات والشركات في صناعة المبدعين. هكذا نستنتج أن التحليلات التي كانت تركز على إبراز النساء كملهمات، والفن بالفطرة، قد حلّت محلها أبحاث حديثة تتقاطع فيها المقاربات من زاوية المهنة وعمل المؤسسات الفنية، عن طريق مساءلة العلاقات الاجتماعية بين الجنسين. وتتحرى عن نماذج التقييم، وتحاول فهم البناء الاجتماعي لاستبعاد ثم لاشتمال النساء. لكن مع الانتباه إلى تبدل النماذج البحثية، وتغير المعيارية، أي حكم القيمة الذي يعني التقويم تفضيلا أو تبخيسا، إضافة إلى تفكيك علاقة الإبداع بالسلطة لموقع النساء داخل السياق الفني الأوسع. مع هذه التحولات نرى أن المقاربة الجندرية مفيدة جدا كأداة معرفية، حين يكون مجال اشتغالها المؤسسات
باختصار لقد خرج الفن من الفردانية، فنجحت النساء في توسيع رقعة أعمالهن، لكن وقوعه في شبكة مؤسساتية قد أوقع النساء مجددا في صور تمييزية جديدة، رغم النجاحات التي حققنها. ترى هل هو لغز التغيير والاقتحام الأنثوي للوجود؟
عندما يلتفت المرء اليوم إلى الراهن الإبداعي والفني وخصوبته الفكرية، يتمثل له تحول الآداب والفنون إلى حرفة وصنعة واستهلاك. لعله جدير بالاهتمام الالتفات إلى علاقة النساء بالإبداع والتساؤل عن مسارهن الفني كمحترفات. فمع هذه التغيرات في تصور الفنون، ومع تتبع التغير الذي طرأ على المفاهيم الذهنية تجاه النساء، ومع تلمس تلازم الفعل الجمالي الفردي بالفعل الجمالي الجمعي وتفاعلهما المتبادل بالحدث التاريخي والوقائع المادية والرمزية؛ تغدو قراءة مواقع النساء على خريطة التمثيل الفني ضرورة لإعادة تقييم موضعهن في الفضاء الاجتماعي في إطار علاقتهن بالآخر. لقد تنبهنا إلى قلة الأبحاث السوسيولوجية الفرنسية التي عالجت علاقة الفرنسيات بالإبداع وبمسارهن المهني كفنانات. لكن دراسات التاريخ الثقافي كانت رائدة في هذا المجال، إذ اهتمت بالمبدعات المميزات كأفراد: كاتبات، رسامات أو مؤلفات للموسيقى، ذلك قبل أن تطرح ضرورة مساءلة تاريخ الفنون في مجمله. إن معرفتنا قليلة حول المسارات المهنية النسائية وماهية وظائفهن ومدى مساهمتهن في تنمية الفنون. ويهتم حاليا علم الاجتماع بالمقاربة الجندرية لمجالات الفنون، وإن ما زالت الدراسات قليلة في هذا المجال، وهو مجال مرشح للتطور. سنهتم بعرض موجز يبين مساهمة النساء والاعتراف بهن في الفنون والآداب، ثم نستعرض بعض المقاربات النظرية والميدانية التأسيسية التي تعكس إيجابيات وسلبيات أوضاع الفنانات. ** من نموذج الملهمات إلى نموذج المبدعات يعد القرن العشرين قرن الاعتراف الرمزي والمهني بإبداعات النساء (Marini 1992)، أسباب عدة اتاحت وصول النساء إلى هذه الاختصاصات الثقافية. أولا: إن جهد النضال النسوي منذ القرن التاسع عشر من أجل تعليم النساء قد أثمر خلال القرن العشرين، إضافة إلى أن اختلاط الجنسين في المؤسسات التعليمية أدى إلى تقييم النساء وفق معايير مماثلة لزملائهن الرجال. ثانيا: إن تطور بنى مجالات الإبداع حيث تكاثرت المسارح ودور النشر والمهرجانات الموسيقية والمعارض التشكيلية، المدعومة من السياسات التنموية الثقافية الرسمية. هكذا شرّع قطاع الإبداع والفنون أبوابه للنساء. ثالثا: إن ازدياد عدد هواة الأنشطة الثقافية، وتطور وسائل الاتصال، شجعا على انتشار الإبداعات الفنية كميا، وخلقا وظائف ثقافية جديدة. والحال إن الانتقال من نموذج النساء الملهمات الذي فرض نفسه طويلا، إلى نموذج النساء الفنانات تم تدريجيا. رغم وجود مبدعات منذ القرون الماضية، إلا أنهن بقين غائبات عن المراجع المعنية بالمؤلفات والكتاب. وجب انتظار نهاية القرن العشرين من أجل الكشف عن السيطرة الذكورية. إن التقسيم الجنسي للمجالات الاجتماعية والثقافية منذ زمن طويل، أبعد النساء عن الأماكن الاجتماعية التفاعلية، التي تتيح ممارسة الأنشطة الإبداعية. وشكل الاختلاف الجسدي مبرر التقسيم الجنسي للعمل: النساء مسؤولات عن النسل والرجال مسؤولون عن السيطرة على أدوات الإنتاج؛ النساء لهن المجال الخاص وتربية الأولاد والفنون البيتية كهاويات، وللرجال السلطة في الحكم والإدارة والتسمية والتصنيف وعرض مؤلفاتهم والاحتراف الفني. هذا التقسيم مسؤول عن استبعاد النساء من ميادين الفنون. وتتضح أكثر أسباب استبعادهن حين نحلل أنماط إنتاج قواعد ومعايير الفنون. الأمر الذي يتيح الحديث عن فرضية ثقافية استبعادية للنساء عن مجالات الإبداع (Escal, Rousseau-Dujardin 1999). كما أن إعادة تركيب الحلقات الناقصة، وتفكيك الأحكام التي تفيد عن غياب العبقرية المؤنثة، تتيح فهم الآليات الاجتماعية والتاريخية التي تنتج عدم مرئية النساء.
إن هيمنة فرضية 'الطبيعة' حول عدم قدرة النساء على الإبداع افضت إلى استبعاد إمكانية وصولهن إلى التعلم في المؤسسات، وأدت إلى عدم الاعتراف بهن. مسار طويل يفصل بين الانتقال من إهداء الرجال النساء كتبهم، إلى حضور النساء كذوات مبدعة. عندما تصبح المبدعة منافسة للرجل في الأدب مثلا، فإن جنس الروائية يُنفى وتؤكد صفات كتابتها الذكورية. للمثال نذكر أن جورج ساند ومارغريت يورسنار أصبحتا من رجالات الأدب، وحكم على كتاباتهن بكونها ذكورية (Naudier2004). إن العملية السحرية في تحول الجنس (مذكر/مؤنث) إلى جندر، وقبوله اجتماعيا في مجالات الآداب والفنون، يدل على هيمنة معايير تشريعية ذكورية تصنف تقييم الجماليات. ;راهنا، فإن فوران إبداعات النساء كشف الهيمنة الذكورية. ورغم وصولهن إلى مختلف القطاعات الفنية، فان المقاومة تستمر، وتستمر المسارات المهنية المجنسة. ومع ذلك فإن نسبة تأنيث مجمل المهن الثقافية يصل إلى نسبة 40 (INSEE 1999) غالبيتهن مدرسات للفنون أكثر منهن مبدعات أو ممثلات. كما نجد النساء بنسب أعلى في أنشطة التكوين والتأهيل والمصاحبة، فهن يشكلن 60 من مدرسي الفنون والموسيقى والرقص. ونجد نسبة عالية أيضا من النساء بين الكتاب حيث يمثلن 46 من الأدباء، وفي نطاق الفن التشكيلي يمثلن30 من التشكيليين (INSEE 2001). نجد فرقا كبيرا في فنون العرض، بين المهن المجنسة (حيث يوزع الدور بين الرجال والنساء) وبين المهن الأخرى غير المجنسة. فنلاحظ تأنيث مهنة الرقص بنسبة 68، ونجد نسبة الممثلات في المسرح 46، بينما لا تمثل النساء في الموسيقى سوى 24 (CESTA). ومع بداية القرن الواحد والعشرين لا يبدو أن حقلا فنيا مقفلا أمام النساء. لذلك نتساءل كيف يدخلن اليوم إلى هذه المهن؟ إن درجة مأسسة التكوين الفني تلعب دورا مهما في دخول النساء إلى الميادين الفنية بقوة. فوجود الأكاديميات التي تدرس الفنون الكلاسيكية، والمعاهد التي تدرس الفنون الحديثة؛ ووجود الاتجاه الفني العالم والاتجاه الفني الشعبي، فإن ذلك قد أفسح المجال أمام تكوينهن المهني. حتى إنه في الأدب حيث لا يلعب دورا مهما التخصص الدقيق فيه، نجد النساء أكثر علما وتحصيلا للشهادات من الرجال. تجدر الاشارة إلى ملاحظتين مهمتين، أولها: حين يكون باب الدخول إلى بعض الفنون واضحا، مثل شركات الرقص والمسرح والاوركسترا السيمفونية المهنية، التي تختار موظفيها عن طريق اختبار الدخول، فإن تقييم النساء ليس دائما لصالحهن. حتى على مستوى مهنة الرقص الأكثر تأنيثا، فإن النساء يواجهن منافسة حادة وتمييزا في الحكم عليهن (Sorignet 2001). بينما طريقة الاختيار التي تتم في الاوركسترا منذ السبعينات، حيث يختبئ المرشح خلف ستارة، سمحت بتوظيف دائم وليس مؤقتاً، لعدد من العازفات في وظائف العزف المنفرد، الذي كانت تغيب عنه النساء فيما مضى (Ravet 2003). ثانيا: في قطاعات فنية أخرى، حين يكون باب الدخول إليها موارب وأقل شكلية، فإن ذلك لا يشكل فرصة ايجابية للنساء، إذ إن الانتماء إلى شبكات، ومعرفة عملاء التوظيف، ومعرفة المهارات المتغيرة، تشكل مجتمعة مفاتيح أساسية للتقدم في عوالم مبنية على أساس العمل الجزئي والعمل على مشاريع محددة. يتوقف إذا، المسار المهني على الانخراط في الأوساط الفنية، لذلك تواجه النساء صعوبات أكثر من الرجال، لأن عملهن مؤقت، ونسبة بطالتهن أكبر، ويتخلل مسارهن المهني انقطاعات، وهن أقل تحصيلا للمال. تلخيصاً، إنها المواصفات العامة التي يتميز بها عمل النساء.
;ثمة تقسيم جنسي ملحوظ للعمل الفني، يتماشى والتمييز الجنسي بحق النساء عموما في الأعمال، ويعاقب تطورهن المهني. فنجد فرزا أفقيا يحشر النساء في حقول فنية محددة، ويؤدي تقسيم العمل الجمالي إلى اعتماد الفنانات التشكيليات في أعمالهن غالبا، وضعية تصويرية أكثر من الرجال (ينحاز الرجال أكثر إلى التجريد أو الفن الطليعي). كما صنفت أعمال مؤلفات المقطوعات الموسيقية، تقليديا،على أنها هامشية. ذلك لأنها تنتمي إلى موسيقى الصالون أو الموسيقى العائلية ولا تنتمي إلى الموسيقى الموجهة إلى الحفلات الجماهيرية (Escal, ; ; Rousseau-Dujardin 1999) ; ; ; فهي على النقيض من المؤلفات 'العظيمة'. في هذا المجال وكما في مجالات أخرى، كان على النساء أن تجابهن الممنوعات كي تؤلفن 'الموسيقى العظيمة' بمساواة مع الرجال. أما فيما يخص مهن التمثيل والرقص، فإن درجة التأنيث تبين اختلافات كبيرة. عالم الرقص مؤنث جدا وقليلا ما مارس التمييز في توزيع الأدوار. وعلى العكس، نلاحظ تقسيما قويا للأدوار بين الموسيقيين والموسيقيات، كما رأينا. تتجه النساء أكثر من الرجال إلى مهن الغناء والموسيقى الشعبية، وعدد قليل منهن يصبحن عازفات محترفات. ففي عالم الموسيقى العالمة، تحتفظ الآلات الموسيقية بهوية مجنسة، تشترط التخصص على الآلة وتؤثر لاحقا في توزيع الوظائف. كما نجد فرزا عموديا تمييزيا يبعد الفنانات عن وظائف السلطة والنفوذ، الأكثر اعترافا بها والأكثر درا للمال. ففي المهن الموسيقية تشغل الموسيقيات وظيفة مصاحبة، ولا تشغلن إلا بنسب ضئيلة وظائف العزف المنفرد (نسبة الرجال 80 في العزف المنفرد)، ونادرا ما مارسن أعمالا إدارية (رئيسة فرقة موسيقية، الخ.). في التمثيل المسرحي، حيث الرجال والنساء حاضرون على قدم المساواة، نرى غالبية المخرجين رجال (75). يشذ عالم الرقص وحده عن هذا المنحى، فالنساء ممثلات في الوظائف التنفيذية أيضا. لا تتوقف الصعوبات عند هذا الحد، إذ تضاف إليها المسؤوليات المنزلية، والنشاط المهني الذي يؤمن مصدر عيشهن (تعليم، صحافة، عمل في دور النشر، الخ.) وكذلك مدى امكانية تثمير الجهود في النشاط الإبداعي الذي يقبله الشريك على مضض. هكذا تضطر النساء إلى ممارسة الفنون بشكل متقطع، وعلى حساب عدم ظهورهن بشكل جلي. ** قواعد الاعتراف تنظم التخصصات الفنية جملة من القواعد التي تقيم الأعمال وممارسيها، والتي تنطق بالكيفية التي يكون معها ممكنا التفوق في معهد الموسيقى والمسرح، والوصول إلى النجومية في الرقص، والوصول إلى صالات العروض والمتاحف في الفن التشكيلي، والحصول على جوائز أدبية؛ إنها عوامل تروج لتفرد الفنانين والمبدعين، من شأنها أيضا إيضاح التمييز الجنسي لعملية التكريس والاعتراف. صحيح أن الرجال والنساء خاضعون للتقييم، لكن وفق تمييز جنسي. والدليل على ذلك إضافة إلى ما أدرجناه، أن عدد الرجال الحاصلين على الجوائز الأدبية يتجاوز بكثير عدد النساء، ومؤلفات المقطوعات الموسيقية أقل تمثيلا، وعروض الفنانات اقل حدوثاً. ذلك لا يمنع من ملاحظة حضور مبدعات مستقلات وملتزمات بقضايا مجتمعهن منذ الخمسينات، قد وقعن العرائض والبيانات. يبدو أن تكون مطلوبا وان توقع عريضة لهو مؤشر على الاعتراف والتكريس. لكن تبقى علاقتهن بالنسوية متجاذبة وملتبسة. فأن يذكر دور العمل الفني في الوصول إلى العالمي، فهذا أمر لا خلاف عليه، لكن في الحقيقة، يراهن الفنانون أيضا، على الاعتراف بتميزهن وتفردهن الجمالي. فبواسطة تملك الجسد الأنثوي وتمويه حدود النوع، شارك بعض الفنانات في التطور السياسي والاجتماعي لانطلاقة النساء. ورفع بعضهن الآخر الهوية كعلامة فارقة للتمييز. .
إن التنظير الجمالي لكتابة النساء سجل حضور كاتبات طليعيات في السبعينات. إن وصولهن إلى وسائل الإنتاج الفني وابتداعهن سجلاً خاصا للتكريس (دور نشر ومهرجانات وجوائز تعنى بإنتاجهن) فإن المبدعات عدلن في اتجاه نظام القيم الذكوري، وساهمن في مجابهة طغيان أحكام تستبعد الأعمال النسائية. إن المقصود من إظهار إبداع النساء إعادة صياغة الهويات الجندرية، وإعادة التفكير في مقولة الفن العالمي نفسها. في هذا الخصوص فإن تأريخ العلاقات الاجتماعية بين الجنسين في حقل الفنون مهم جدا لمساءلة نماذج بناء التراتبية الجمالية. ** إشكاليات ومقاربات متنوعة تتساءل مقاربات عدة عن مواصفات الاختلاف بين الجنسين في عالم الإبداع، وتمهد لتطوير حدود حقل بحثي مهم. للمثال، نجد مقاربة تساءل التمثلات المرتبطة بالأنوثة والذكورة، والصور السائدة عن النساء في المجتمع المعاصر. تمتزج هذه المقاربة بالمقاربات التاريخية والثقافية والتاريخ الاجتماعي للفنون، فتساؤل العلاقة بالسياسي وبصور السلطة، وتشير إلى تنوع النماذج النسائية في السينما (BURCH, Sellier 1996) والمسرح ;(Evain ; 2001) والأدب (Heinich 1996). ساهمت هذه الدراسات المركبة في سد الثغرات في تاريخ الفنون والموسيقى. واعتنت دراسات أخرى بتحليل طريقة عمل الحقل الفني، وأنماط الوصول إليه، وآليات التكريس التي يتبعها. تعيد هذه الدراسات الكمية والنوعية تأليف المواقف في الحقل الفني وتحلل الخطابات السائدة وفق مواقع المقابلين. وتتساءل عن الإعاقات الخاصة التي تواجهها النساء في مختلف القطاعات الفنية من أجل الوصول إلى المواقع المهمة التي ترضي قدراتهن. ترسم الاستقصاءات حول المهن الفنية لعدة مجموعات من الفنانين، من زاوية الوظيفة والموقع واستغلال المصادر المؤسساتية، خريطة المواصفات الاجتماعية والسكانية لهذه المجموعة، والمراحل المهنية والمسارات النموذجية. فاهتمت بخصوصية المسارات الفنية النسائية، حين ارتبطت الاختلافات بعامل الجنس. لقد أنتج مركز سوسيولوجيا العمل والفنون عدة أبحاث من هذا النوع. وأفسحت بعض الأعمال الرائدة مكاناً للتساؤل الجندري حول اختلاف المهن بين الرجال، والنساء والتقسيم الجنسي للأدوار. واهتم بعضها الآخر بتأنيث المهنة الموسيقية. أو بعلاقات الرجال والنساء. وفضلت أعمال أخرى دراسة مسارات الفنانات المهنية وصيرورتها، اعتمادا على تحليل سيرهن، حيث أعيد تأليف مساراتهن النموذجية وغير النموذجية، ذلك بموازاة تحليل زمني يظهر انفتاح فضاءات الفنون في وجه النساء. أن هيمنة الاعتقاد بتدني 'طبيعة' النساء في الاختصاصات الفنية، تعود إلى الاعتقاد الذي كان سائدا عن المواهب الفطرية للمبدعين، بينما يسود اليوم الاعتقاد عن فعالية المؤسسات والشركات في صناعة المبدعين. هكذا نستنتج أن التحليلات التي كانت تركز على إبراز النساء كملهمات، والفن بالفطرة، قد حلّت محلها أبحاث حديثة تتقاطع فيها المقاربات من زاوية المهنة وعمل المؤسسات الفنية، عن طريق مساءلة العلاقات الاجتماعية بين الجنسين. وتتحرى عن نماذج التقييم، وتحاول فهم البناء الاجتماعي لاستبعاد ثم لاشتمال النساء. لكن مع الانتباه إلى تبدل النماذج البحثية، وتغير المعيارية، أي حكم القيمة الذي يعني التقويم تفضيلا أو تبخيسا، إضافة إلى تفكيك علاقة الإبداع بالسلطة لموقع النساء داخل السياق الفني الأوسع. مع هذه التحولات نرى أن المقاربة الجندرية مفيدة جدا كأداة معرفية، حين يكون مجال اشتغالها المؤسسات
باختصار لقد خرج الفن من الفردانية، فنجحت النساء في توسيع رقعة أعمالهن، لكن وقوعه في شبكة مؤسساتية قد أوقع النساء مجددا في صور تمييزية جديدة، رغم النجاحات التي حققنها. ترى هل هو لغز التغيير والاقتحام الأنثوي للوجود؟