يتضمن هذا البحث مطلبين:
المطلب الأول: نشأة علم الثقافة في العصر الحديث، والمراحل التي مر بها.
المطلب الثاني: تميز علم الثقافة الإسلامية، وأهمية تدريسه في الجامعات.
وتفصيل الكلام فيهما على النحو التالي:
المطلب الأول: نشأة علم الثقافة والمراحل التي مرّ بها:
أ) علم الثقافة الإسلامية في العصور الإسلامية الأولى:
من أهم خصائص هذا العلم الشمولية، "فالشمول هو القاعدة الأساس لمنهج علم الثقافة الإسلامية، وهي الحاكمة للقواعد الأخرى، في حدود النظر والتناول، والمراد بالشمول: التناول الكلي للموضوع باعتباره وحدةً مترابطةً، يُنظر إليها باعتبار كليّتها أو تركيبها؛ لتقديم صورة شاملة عن الموضوع المراد دراسته"[1].
وبهذا المفهوم نستطيع أن نقول: إنه منذ العصر الإسلامي كانت نصوص الوحي تتسم بالشمول، فالوحي خطابٌ شامل لشؤون الحياة كلها، وأسلوب القرآن يختلف عن شؤون العلوم الإسلامية المتخصصة؛ التي تقوم على تقسيم العلوم إلى تفسير، وحديث، وفقه.. إلخ، فالأصل هو النظرة الشمولية الكليّة، وهو المنهج الذي تقوم عليه الثقافة الإسلامية في العصر الحاضر.
وفي العصور الإسلامية توسعت العلوم، واقتضى ذلك ظهور التخصص في علمٍ أو أكثر، وطغى ذلك التخصُّصُ حتى أصبح العالِمُ يتخصص في علمٍ من العلوم، فيستغرق في دراسة دقائقه وتفصيلاته، منصرفاً عن العلوم الأخرى، ومع بروز هذه الظاهرة إلا أنَّ ذلك لم يصرف بعضَ العلماء عن التأليف الشمولي، ومن أبرز هؤلاء:
1) الإمام الشافعي - رحمه الله - صاحب كتاب "الرسالة".
2) أبو حامد الغزالي - رحمه الله - صاحب كتاب "إحياء علوم الدين".
3) ابن قيم الجوزية - رحمه الله - صاحب كتاب "زاد المعاد إلى هدي خير العباد".
4) ولي الله الدهلوي - رحمه الله - صاحب كتاب "حجة الله البالغة"[2].
ومن أبرز العلماء الذين ألَّفوا وكتبوا بمنهج شمولي شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الذي قام بحركته النقدية لتراث الحضارة الإسلامية، بمنهج سلفي؛ يتسم بالشمولية في العرض والنقد؛ جعل تراثَه مرجعاً أساساً للمفكرين والمصلحين في العصر الحديث.
ب) علم الثقافة الإسلامية في العصر الحديث:
واجه المسلمون في العصر الحديث تحدِّياً ثقافياً، برز هذا التحدي في الاتصالِ بالثقافات الغربية، وظهورِ المذاهب الفكرية و(الأيدلوجيات) الغربية، وتَأثُّرِ بعض المسلمين بتلك المذاهب.
وأبرز ما يميز تلك المذاهبَ الطَّرحُ الشمولي، فتوالت النداءات وظهرت الكتابات لصدّ الغزو الثقافي القادم من الغرب، وكان المنهجُ المناسبُ للمواجهة هو المنهج الشمولي، وكان نتيجةَ ذلك وجودُ مجموعة من الأفكار والكتاباتِ ذاتِ المَنْزع الشمولي، ولم تكن - في البداية - تسميةٌ معينةٌ لهذه الأفكار والكتابات[3].
يَذكُرُ الأستاذُ محمد المبارك الحاجةَ إلى التأليف عن الإسلام بمنهج شمولي؛ فيقول: (إن الحاجة إلى كتابٍ يُعرّف بالإسلام تعريفاً شاملاً صحيحاً حاجةٌ عامةٌ مُلِحَّةٌ، لا تَسدُّها الكتبُ الكثيرةُ التي تُعرِّف بجوانب من الإسلام، ولو كانت جيدة في موضوعها)[4].
ويقول أيضاً: (إننا نُلِحُّ على ضرورة تقديم هذه الصورة الشاملة في إطارها، المُوضِحة لجوانب الإسلامِ كلِّها، من عقيدته التي يرتكز عليها، وتتضمن النظرةَ العامة إلى الوجود التي يدعو إليها، والعبادة التي هي رياضة العقيدة والمحرك المستمر لاستشعارها، ومن قواعد السلوك في الحياة أو نظامه الأخلاقي، ومن قواعد تنظيم المجتمع، أو التشريع المنظم للأسرة، وللحياة الاقتصادية، وللحياة السياسية، أو الدولة. إن هذه الصورة الشاملة هي التي تعرّف بالإسلام تعريفاً صحيحاً، وتميزه مِن غيره من المذاهب والنُّظُم)[5].
مرحلة تسمية العلم:
لفتت الكتاباتُ ذات المنهج الشمولي بعضَ العلماء والمفكرين؛ فبدأت الرؤية تتضح في الحاجة إلى تأسيس علم جديد؛ يقوم بتوعية الأجيال بهويتها الإسلامية، ويُحصِّنها ضد الغزو الفكري والثقافي.. وسمي هذا العلمُ (علم الثقافة الإسلامية)، ويذكر الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - هذه المرحلة وما رافقها من اجتهادات؛ فذكر أن عدة اقتراحات طُرِحت لتسمية هذا العلم الجديد، منها:
• اقْتُرِحَ بأن يسمى: (الإسلام في مقابل النصرانية واليهودية والشيوعية وغيرها من الأديان أو المذاهب الاجتماعية)! ولكنَّ هذا الاقتراحَ رَُّد لطول الاسم، ولأن مصطلح (الإسلام) مصطلح عامٌّ لا يشير إلى المقصود من العلم.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (علم الحضارة الإسلامية)، ورُدَّ هذا الاقتراحُ بأن المسمى سيدخل في الدراساتِ التاريخيةِ، وعرضِ الجوانب العلمية والحضارية، وهذا غير مقصودٍ، ومخدومٌ في علومٍ أخرى.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (النُّظُم الإسلامية)، ولكن هذا التعبير - بصيغة الجمع - يُفهَم منه الدلالةُ على الأنظمة المختلفة للإسلام؛ كالنظام السياسي، والاقتصادي، والأسري!
• ويرى الأستاذ محمد المبارك بأن يسمى العلم الجديد (نظام الإسلام)، ويبرّر هذه التسمية بقوله: (لأن كلمة "نظام" - بالإفراد - تفيد أن لكل دين أو مذهب طريقةً أو نظاماً يُنظِّم أجزاءَه وأقسامه ومبادئه النظرية والعملية)[6].
• أُدخل هذا العلمُ إلى مناهج جامعة الرياض، التي سميت باسم (جامعة الملك سعود)، كان ذلك عام 1964م، وسميت باسم مادة (الثقافة الإسلامية).
• في عام 1397هـ أُنشئ قسمُ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وبذلك استقر مسمى (الثقافة الإسلامية) لهذا العلم الجديد، وقُرِّر تدريسُ هذه المادة في جميع الجامعات في المملكة العربية السعودية.
المراحل التي مرّت بها الثقافة الإسلامية:
يذكر الأستاذ محمد المبارك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) أن جيلَه شهدَ حمْلاتِ تشكيكٍ في المُثُلِ والقيم الإسلامية، وشهد انبهاراً بالأفكار الغربية مثل (العلمانية) و(الديمقراطية)، ثم جاءت موجة (الاشتراكية)، ويشير إلى أن هذه (الأيدلوجيات) والأفكار جاءت إلى العالم الإسلامي، والظروفُ مهيّئة لانتشارها، والنفوسُ مستعدّة لقَبولها[7].
ومنذ ذلك الحين أصبحت الثقافة الإسلامية تواجه تحدِّياً كبيراً، وبدأت تتضح مراحل المواجهة مع الثقافة الغربية الغازية، ويمكن أن تقسم هذه المراحل إلى المراحل الآتية:
المرحلة الأولى (مرحلة: الإسلام في قفص الاتهام):
في هذه المرحلة كانت الثقافةُ الإسلاميةُ ومُثُلُها وقيمُها ونُظُمُها.. في قفص الاتهام! وأصبح الإسلام مُتَّهماً، وتُثارُ حولَه كثيرٌ من الشُبُهات، وانبرى العلماءُ والمفكرون يدفعون عن الإسلام هذه الاتهامات، ويفنِّدون تلك الشبهات؛ فالإسلام ليس منافياً للرُّقيِّ، ولا مانعاً من التطور، ولا معارضاً للعلم والعقل، وهذا ما يلاحَظ في مؤلفات الشيخ محمد عبده، وفريد وجدي، وأمثالهما[8].
المرحلة الثانية (مرحلة: التوفيق بين الإسلام وغيره من المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة خرج الإسلام من قفص الاتهام، وأصبح يُقاس بمقاييس غيره، فالإسلام صالح لأنه يتفق مع (الديمقراطية)، وهو متطور لأنه يتفق مع مبادئ الاشتراكية! وسببُ القياسِ على هذه المبادئ أن كثيراً من المثقفين كانوا منبهرين بتلك المبادئ والنظم..
وفي هذه المرحلة أُلبسَت الأفكارُ الغربية أحياناً لباسَ الإسلام؛ ليسهُل مرورُها واجتيازها إلى المجتمع الإسلامي! وأحياناً يُلبَس الإسلامُ لباسَ الأفكار الغربية؛ ليسهل على العقول التي ألفت التفكير الغربي أن تستسيغه وتقبله!! وظهرت كتبٌ في هذه المرحلة، مثل كتاب (ديمقراطية الإسلام!) للعقاد، وكتاب (اشتراكية الإسلام!) لمصطفى السباعي[9].
وكان لهذه المرحلة إيجابياتها وسلبياتها، فكانت سبيلاً للكشف عن كثيرٍ من جوانب عظمة الإسلام، كما كانت - أحياناً - للانحراف والتعسف في تأويل نصوصه، وإلباسِه غيرَ ثوبه، وإقحامِ أفكارٍ غريبة عليه[10].
وكان لهذه المرحلة عدة خصائص، من أبرزها ما يلي:
1- أنها كانت تقوم على أساسٍ نفسي، من الإعجاب بالغرب وإكباره، واستشعارِ النقص والضعفِ الفكري والثقافي.
2- أنها كانت تقوم على الأخذ بالمثل والقيم الغربية، واتخاذها مقاييس لتقويم مبادئ الإسلام ونظمه وقيمه.
3- تأثرُ المسلمين وانخداعُهم ببعض الأفكار والاصطلاحات، مثل: التقدمية، والتطور، والتجديد..
4- نقل المسلمين لمشكلات الغرب التي نشأت في ظروف تاريخية خاصة به، وإقحام تلك المشكلات في داخل المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف الظروف والملابسات!! مثل مشكلة الصراع بين الدين والعلم.
المرحلة الثالثة (مرحلة: ذاتية الإسلام وظهور تميزه على المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح صورةُ الإسلام الخاصة به، ومقاييسه الذاتية، وبدأت مرحلة وعي الذات وأنَّ ما تملكه الأمةُ من مبادئَ سامية ونظمٍ صالحةٍ أفضلُ مما هو موجود لدى الغرب، فقد وجد المسلمون بين أيديهم رصيداً ثميناً من المثل والقيم والمبادئ والنظم، واكتشفوا أن ما جاء به الإسلام نظامٌ كامل وشامل للحياة.
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح عيوبُ وسلبياتُ النظم الغربية، وأصبحت تُوجَّه الانتقاداتُ إليها، فبدأت تتضح عيوبُ (الاشتراكية) و(العلمانية) و(الديمقراطية)، وأن الشعوب لم تجد في تلك المذاهب والنظريات ما يحقق رُقِيَّها وسعادتَها[11].
المطلب الثاني: تميز علم الثقافة الإسلامية، وأهمية تدريسها في الجامعات:
ويحوي هذا المطلب محورين:
المحور الأول: تميز علم الثقافة الإسلامية على غيره من العلوم:
من المؤسف أن ترى البعض يحمل تصوُّراً خاطئاً عن علم الثقافة الإسلامية، بل يذهب بعضُهم إلى أنه ليس هناك حاجة إلى هذا العلم، وأن العلوم الإسلامية الأخرى تغني عنه! ولذا نحاول أن نشير هنا إلى تميزه عن العلوم الإسلامية الأخرى:
- فمِمَّا يميز علم الثقافة الإسلامية أنه علم يبحث في كُليَّات الإسلام، في نظم الحياة كلها، وهذا يخرِج العلومَ الأخرى، كعلم العقيدة، وعلم الفقه..؛ لأنها علوم تبحث في فروع الإسلام وجزئياته، وليس في كليات الإسلام[12].
- إن علم الثقافة الإسلامية يتسم بالشمول، ويقصد به: التناول الكلي للموضوع باعتباره وحدةً مترابطة، سواء كان الموضوع قِيمةً أو نظاماً أو فكراً، فالإسلام يُتَنَاوَل بوصفه منهجاً للحياة مترابطاً من جميع الجوانب؛ العَقَدية، والعِبادية، ولخلُقية، والاجتماعية، والاقتصادية .. إلخ[13].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية بقيامه على منهجيةِ توجيهِ النقدِ إلى (الأيدلوجيات) والمذاهب الأخرى، ولا سيما في هذا العصر، الذي تتنافس فيه المذهبيات وتتصارع فيه الأفكار، فبواسطة النقد - بحديه الإيجابي والسلبي - يمكن بيانُ الجوانبِ الجيدةِ المتوافقةِ مع الإسلام في الفكر الإنساني، وكذلك بيانُ جوانبِ النقصِ والقُصورِ والانحراف التي تكشف عن حاجته إلى هداية الوحي[14].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية باعتماده على منهج المقارنة، وذلك من أجل كشف كمال الإسلام، وفضله، وحاجة البشرية إليه[15].
المحور الثاني: أهمية تدريس علم الثقافة الإسلامية في الجامعات:
تتجلى أهمية تدريس مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات في معرفة أهدافِ تدريسها، وأبرزُ الأهداف لتدريسها ما يلي:
1- إبرازُ النظرةِ الشمولية للإسلام، بوصفه منهجاً شاملاً لجميع جوانب الحياة، أساسُه التوحيد، والتخلصُ من النظرة الجزئية للإسلام، التي تقصره على بعض جوانب الحياة.
2- تعميقُ انتماء الطالب إلى الإسلام، وربطُه بكتاب الله - عز وجل - وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبصيرُه بما في هذين المصدرين الرئيسين من أصول القيم الخلقية والحضارية، وذلك من أجل تحصينه - اعتقاداً وفكراً وسلوكاً - ضد التيارات الفكرية المعارضة للإسلام.
3- تجليةُ مواقف الإسلام من قضايا العصر، خاصة في مجالات العلوم المختلفة، وحركات الفكر، ونظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..، ونقدها من المنظور الإسلامي.
4- بيانُ تفوقِ الإسلام وتميزه على المذاهب الفكرية و(الأيدلوجيات) في كافة شؤون الحياة، وإظهارُ قدرتِه على تحقيق السعادة الإنسانية؛ في مقابل إخفاق تلك المذاهب و(الأيدلوجيات).
5- إعطاء الطالب صورة وافية عما صنعته رسالةُ الإسلام العامَّةُ الشاملةُ في الحياة الإنسانية، من تحريرِها للبشر من الوثنيات والخرافات، وإنقاذِهم من التخلف الفكري، والتفكك الاجتماعي.
6- تشخيصُ حالِ الأمةِ الإسلاميةِ في مجالي الفكرِ والسلوكِ والحركةِ الحضاريةِ، وبيانُ مَواطن الخلل فيها ومنهج العلاج[16].
المطلب الأول: نشأة علم الثقافة في العصر الحديث، والمراحل التي مر بها.
المطلب الثاني: تميز علم الثقافة الإسلامية، وأهمية تدريسه في الجامعات.
وتفصيل الكلام فيهما على النحو التالي:
المطلب الأول: نشأة علم الثقافة والمراحل التي مرّ بها:
أ) علم الثقافة الإسلامية في العصور الإسلامية الأولى:
من أهم خصائص هذا العلم الشمولية، "فالشمول هو القاعدة الأساس لمنهج علم الثقافة الإسلامية، وهي الحاكمة للقواعد الأخرى، في حدود النظر والتناول، والمراد بالشمول: التناول الكلي للموضوع باعتباره وحدةً مترابطةً، يُنظر إليها باعتبار كليّتها أو تركيبها؛ لتقديم صورة شاملة عن الموضوع المراد دراسته"[1].
وبهذا المفهوم نستطيع أن نقول: إنه منذ العصر الإسلامي كانت نصوص الوحي تتسم بالشمول، فالوحي خطابٌ شامل لشؤون الحياة كلها، وأسلوب القرآن يختلف عن شؤون العلوم الإسلامية المتخصصة؛ التي تقوم على تقسيم العلوم إلى تفسير، وحديث، وفقه.. إلخ، فالأصل هو النظرة الشمولية الكليّة، وهو المنهج الذي تقوم عليه الثقافة الإسلامية في العصر الحاضر.
وفي العصور الإسلامية توسعت العلوم، واقتضى ذلك ظهور التخصص في علمٍ أو أكثر، وطغى ذلك التخصُّصُ حتى أصبح العالِمُ يتخصص في علمٍ من العلوم، فيستغرق في دراسة دقائقه وتفصيلاته، منصرفاً عن العلوم الأخرى، ومع بروز هذه الظاهرة إلا أنَّ ذلك لم يصرف بعضَ العلماء عن التأليف الشمولي، ومن أبرز هؤلاء:
1) الإمام الشافعي - رحمه الله - صاحب كتاب "الرسالة".
2) أبو حامد الغزالي - رحمه الله - صاحب كتاب "إحياء علوم الدين".
3) ابن قيم الجوزية - رحمه الله - صاحب كتاب "زاد المعاد إلى هدي خير العباد".
4) ولي الله الدهلوي - رحمه الله - صاحب كتاب "حجة الله البالغة"[2].
ومن أبرز العلماء الذين ألَّفوا وكتبوا بمنهج شمولي شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الذي قام بحركته النقدية لتراث الحضارة الإسلامية، بمنهج سلفي؛ يتسم بالشمولية في العرض والنقد؛ جعل تراثَه مرجعاً أساساً للمفكرين والمصلحين في العصر الحديث.
ب) علم الثقافة الإسلامية في العصر الحديث:
واجه المسلمون في العصر الحديث تحدِّياً ثقافياً، برز هذا التحدي في الاتصالِ بالثقافات الغربية، وظهورِ المذاهب الفكرية و(الأيدلوجيات) الغربية، وتَأثُّرِ بعض المسلمين بتلك المذاهب.
وأبرز ما يميز تلك المذاهبَ الطَّرحُ الشمولي، فتوالت النداءات وظهرت الكتابات لصدّ الغزو الثقافي القادم من الغرب، وكان المنهجُ المناسبُ للمواجهة هو المنهج الشمولي، وكان نتيجةَ ذلك وجودُ مجموعة من الأفكار والكتاباتِ ذاتِ المَنْزع الشمولي، ولم تكن - في البداية - تسميةٌ معينةٌ لهذه الأفكار والكتابات[3].
يَذكُرُ الأستاذُ محمد المبارك الحاجةَ إلى التأليف عن الإسلام بمنهج شمولي؛ فيقول: (إن الحاجة إلى كتابٍ يُعرّف بالإسلام تعريفاً شاملاً صحيحاً حاجةٌ عامةٌ مُلِحَّةٌ، لا تَسدُّها الكتبُ الكثيرةُ التي تُعرِّف بجوانب من الإسلام، ولو كانت جيدة في موضوعها)[4].
ويقول أيضاً: (إننا نُلِحُّ على ضرورة تقديم هذه الصورة الشاملة في إطارها، المُوضِحة لجوانب الإسلامِ كلِّها، من عقيدته التي يرتكز عليها، وتتضمن النظرةَ العامة إلى الوجود التي يدعو إليها، والعبادة التي هي رياضة العقيدة والمحرك المستمر لاستشعارها، ومن قواعد السلوك في الحياة أو نظامه الأخلاقي، ومن قواعد تنظيم المجتمع، أو التشريع المنظم للأسرة، وللحياة الاقتصادية، وللحياة السياسية، أو الدولة. إن هذه الصورة الشاملة هي التي تعرّف بالإسلام تعريفاً صحيحاً، وتميزه مِن غيره من المذاهب والنُّظُم)[5].
مرحلة تسمية العلم:
لفتت الكتاباتُ ذات المنهج الشمولي بعضَ العلماء والمفكرين؛ فبدأت الرؤية تتضح في الحاجة إلى تأسيس علم جديد؛ يقوم بتوعية الأجيال بهويتها الإسلامية، ويُحصِّنها ضد الغزو الفكري والثقافي.. وسمي هذا العلمُ (علم الثقافة الإسلامية)، ويذكر الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - هذه المرحلة وما رافقها من اجتهادات؛ فذكر أن عدة اقتراحات طُرِحت لتسمية هذا العلم الجديد، منها:
• اقْتُرِحَ بأن يسمى: (الإسلام في مقابل النصرانية واليهودية والشيوعية وغيرها من الأديان أو المذاهب الاجتماعية)! ولكنَّ هذا الاقتراحَ رَُّد لطول الاسم، ولأن مصطلح (الإسلام) مصطلح عامٌّ لا يشير إلى المقصود من العلم.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (علم الحضارة الإسلامية)، ورُدَّ هذا الاقتراحُ بأن المسمى سيدخل في الدراساتِ التاريخيةِ، وعرضِ الجوانب العلمية والحضارية، وهذا غير مقصودٍ، ومخدومٌ في علومٍ أخرى.
• واقتُرِحَ بأن يسمى (النُّظُم الإسلامية)، ولكن هذا التعبير - بصيغة الجمع - يُفهَم منه الدلالةُ على الأنظمة المختلفة للإسلام؛ كالنظام السياسي، والاقتصادي، والأسري!
• ويرى الأستاذ محمد المبارك بأن يسمى العلم الجديد (نظام الإسلام)، ويبرّر هذه التسمية بقوله: (لأن كلمة "نظام" - بالإفراد - تفيد أن لكل دين أو مذهب طريقةً أو نظاماً يُنظِّم أجزاءَه وأقسامه ومبادئه النظرية والعملية)[6].
• أُدخل هذا العلمُ إلى مناهج جامعة الرياض، التي سميت باسم (جامعة الملك سعود)، كان ذلك عام 1964م، وسميت باسم مادة (الثقافة الإسلامية).
• في عام 1397هـ أُنشئ قسمُ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وبذلك استقر مسمى (الثقافة الإسلامية) لهذا العلم الجديد، وقُرِّر تدريسُ هذه المادة في جميع الجامعات في المملكة العربية السعودية.
المراحل التي مرّت بها الثقافة الإسلامية:
يذكر الأستاذ محمد المبارك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية) أن جيلَه شهدَ حمْلاتِ تشكيكٍ في المُثُلِ والقيم الإسلامية، وشهد انبهاراً بالأفكار الغربية مثل (العلمانية) و(الديمقراطية)، ثم جاءت موجة (الاشتراكية)، ويشير إلى أن هذه (الأيدلوجيات) والأفكار جاءت إلى العالم الإسلامي، والظروفُ مهيّئة لانتشارها، والنفوسُ مستعدّة لقَبولها[7].
ومنذ ذلك الحين أصبحت الثقافة الإسلامية تواجه تحدِّياً كبيراً، وبدأت تتضح مراحل المواجهة مع الثقافة الغربية الغازية، ويمكن أن تقسم هذه المراحل إلى المراحل الآتية:
المرحلة الأولى (مرحلة: الإسلام في قفص الاتهام):
في هذه المرحلة كانت الثقافةُ الإسلاميةُ ومُثُلُها وقيمُها ونُظُمُها.. في قفص الاتهام! وأصبح الإسلام مُتَّهماً، وتُثارُ حولَه كثيرٌ من الشُبُهات، وانبرى العلماءُ والمفكرون يدفعون عن الإسلام هذه الاتهامات، ويفنِّدون تلك الشبهات؛ فالإسلام ليس منافياً للرُّقيِّ، ولا مانعاً من التطور، ولا معارضاً للعلم والعقل، وهذا ما يلاحَظ في مؤلفات الشيخ محمد عبده، وفريد وجدي، وأمثالهما[8].
المرحلة الثانية (مرحلة: التوفيق بين الإسلام وغيره من المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة خرج الإسلام من قفص الاتهام، وأصبح يُقاس بمقاييس غيره، فالإسلام صالح لأنه يتفق مع (الديمقراطية)، وهو متطور لأنه يتفق مع مبادئ الاشتراكية! وسببُ القياسِ على هذه المبادئ أن كثيراً من المثقفين كانوا منبهرين بتلك المبادئ والنظم..
وفي هذه المرحلة أُلبسَت الأفكارُ الغربية أحياناً لباسَ الإسلام؛ ليسهُل مرورُها واجتيازها إلى المجتمع الإسلامي! وأحياناً يُلبَس الإسلامُ لباسَ الأفكار الغربية؛ ليسهل على العقول التي ألفت التفكير الغربي أن تستسيغه وتقبله!! وظهرت كتبٌ في هذه المرحلة، مثل كتاب (ديمقراطية الإسلام!) للعقاد، وكتاب (اشتراكية الإسلام!) لمصطفى السباعي[9].
وكان لهذه المرحلة إيجابياتها وسلبياتها، فكانت سبيلاً للكشف عن كثيرٍ من جوانب عظمة الإسلام، كما كانت - أحياناً - للانحراف والتعسف في تأويل نصوصه، وإلباسِه غيرَ ثوبه، وإقحامِ أفكارٍ غريبة عليه[10].
وكان لهذه المرحلة عدة خصائص، من أبرزها ما يلي:
1- أنها كانت تقوم على أساسٍ نفسي، من الإعجاب بالغرب وإكباره، واستشعارِ النقص والضعفِ الفكري والثقافي.
2- أنها كانت تقوم على الأخذ بالمثل والقيم الغربية، واتخاذها مقاييس لتقويم مبادئ الإسلام ونظمه وقيمه.
3- تأثرُ المسلمين وانخداعُهم ببعض الأفكار والاصطلاحات، مثل: التقدمية، والتطور، والتجديد..
4- نقل المسلمين لمشكلات الغرب التي نشأت في ظروف تاريخية خاصة به، وإقحام تلك المشكلات في داخل المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف الظروف والملابسات!! مثل مشكلة الصراع بين الدين والعلم.
المرحلة الثالثة (مرحلة: ذاتية الإسلام وظهور تميزه على المبادئ الغربية):
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح صورةُ الإسلام الخاصة به، ومقاييسه الذاتية، وبدأت مرحلة وعي الذات وأنَّ ما تملكه الأمةُ من مبادئَ سامية ونظمٍ صالحةٍ أفضلُ مما هو موجود لدى الغرب، فقد وجد المسلمون بين أيديهم رصيداً ثميناً من المثل والقيم والمبادئ والنظم، واكتشفوا أن ما جاء به الإسلام نظامٌ كامل وشامل للحياة.
وفي هذه المرحلة بدأت تتضح عيوبُ وسلبياتُ النظم الغربية، وأصبحت تُوجَّه الانتقاداتُ إليها، فبدأت تتضح عيوبُ (الاشتراكية) و(العلمانية) و(الديمقراطية)، وأن الشعوب لم تجد في تلك المذاهب والنظريات ما يحقق رُقِيَّها وسعادتَها[11].
المطلب الثاني: تميز علم الثقافة الإسلامية، وأهمية تدريسها في الجامعات:
ويحوي هذا المطلب محورين:
المحور الأول: تميز علم الثقافة الإسلامية على غيره من العلوم:
من المؤسف أن ترى البعض يحمل تصوُّراً خاطئاً عن علم الثقافة الإسلامية، بل يذهب بعضُهم إلى أنه ليس هناك حاجة إلى هذا العلم، وأن العلوم الإسلامية الأخرى تغني عنه! ولذا نحاول أن نشير هنا إلى تميزه عن العلوم الإسلامية الأخرى:
- فمِمَّا يميز علم الثقافة الإسلامية أنه علم يبحث في كُليَّات الإسلام، في نظم الحياة كلها، وهذا يخرِج العلومَ الأخرى، كعلم العقيدة، وعلم الفقه..؛ لأنها علوم تبحث في فروع الإسلام وجزئياته، وليس في كليات الإسلام[12].
- إن علم الثقافة الإسلامية يتسم بالشمول، ويقصد به: التناول الكلي للموضوع باعتباره وحدةً مترابطة، سواء كان الموضوع قِيمةً أو نظاماً أو فكراً، فالإسلام يُتَنَاوَل بوصفه منهجاً للحياة مترابطاً من جميع الجوانب؛ العَقَدية، والعِبادية، ولخلُقية، والاجتماعية، والاقتصادية .. إلخ[13].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية بقيامه على منهجيةِ توجيهِ النقدِ إلى (الأيدلوجيات) والمذاهب الأخرى، ولا سيما في هذا العصر، الذي تتنافس فيه المذهبيات وتتصارع فيه الأفكار، فبواسطة النقد - بحديه الإيجابي والسلبي - يمكن بيانُ الجوانبِ الجيدةِ المتوافقةِ مع الإسلام في الفكر الإنساني، وكذلك بيانُ جوانبِ النقصِ والقُصورِ والانحراف التي تكشف عن حاجته إلى هداية الوحي[14].
- ويتميز علم الثقافة الإسلامية باعتماده على منهج المقارنة، وذلك من أجل كشف كمال الإسلام، وفضله، وحاجة البشرية إليه[15].
المحور الثاني: أهمية تدريس علم الثقافة الإسلامية في الجامعات:
تتجلى أهمية تدريس مادة الثقافة الإسلامية في الجامعات في معرفة أهدافِ تدريسها، وأبرزُ الأهداف لتدريسها ما يلي:
1- إبرازُ النظرةِ الشمولية للإسلام، بوصفه منهجاً شاملاً لجميع جوانب الحياة، أساسُه التوحيد، والتخلصُ من النظرة الجزئية للإسلام، التي تقصره على بعض جوانب الحياة.
2- تعميقُ انتماء الطالب إلى الإسلام، وربطُه بكتاب الله - عز وجل - وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبصيرُه بما في هذين المصدرين الرئيسين من أصول القيم الخلقية والحضارية، وذلك من أجل تحصينه - اعتقاداً وفكراً وسلوكاً - ضد التيارات الفكرية المعارضة للإسلام.
3- تجليةُ مواقف الإسلام من قضايا العصر، خاصة في مجالات العلوم المختلفة، وحركات الفكر، ونظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..، ونقدها من المنظور الإسلامي.
4- بيانُ تفوقِ الإسلام وتميزه على المذاهب الفكرية و(الأيدلوجيات) في كافة شؤون الحياة، وإظهارُ قدرتِه على تحقيق السعادة الإنسانية؛ في مقابل إخفاق تلك المذاهب و(الأيدلوجيات).
5- إعطاء الطالب صورة وافية عما صنعته رسالةُ الإسلام العامَّةُ الشاملةُ في الحياة الإنسانية، من تحريرِها للبشر من الوثنيات والخرافات، وإنقاذِهم من التخلف الفكري، والتفكك الاجتماعي.
6- تشخيصُ حالِ الأمةِ الإسلاميةِ في مجالي الفكرِ والسلوكِ والحركةِ الحضاريةِ، وبيانُ مَواطن الخلل فيها ومنهج العلاج[16].