القارة الجديدة.. والخبر المدهش
ليس هذا العنوان ضربًا من المبالغة.
وليس القصد منه هو الإثارة والتهويل.
وإنما هو يجسّد الحقيقة بكل نصاعتها ونقائها وصدقها.
وحين أرجع بالذاكرة إلى ما قبل التاسعة من عمري لا أذكر أشياء كثيرة عن مدينة (عِفْرين)، وكأنما كانت تقع في قارة أخرى، رغم أن قريتي (قرزيحل) لا تبعد عنها سوى مسافة خمسة كيلو مترات فقط.
بلى، لا أذكر عن (عفرين) تلك الأيام إلا أمورًا ثلاثة:
· كسوة الثياب الجديدة التي كان الأهل يشترونها لنا.
· أنواع السكاكر والحلوى التي كانوا يتحفوننا بها.. وكم كنا نجدها لذيذة!
· دويّ المدفع (الطوب) الذي كنا نبتهج لسماعه، كان دويّه الراعد إيذاناً ببدء شهر رمضان، وبشرى بقدوم عيدي الفطر والأضحى.. كان ذلك الدويّ يدخل الفرحة إلى حياتنا نحن الأطفال والصبية.. إنه كان يعني – من جملة ما يعني- ثيابًا جديدة، وكثيرًا من الكعك والشراب والحلوى، ومزيدًا من اللعب والأراجيح، وكثيراً من حلقات الدبكة على الأنغام الشجية لمزمار الراعي العم (عبدو) رحمه الله، وعلى دقات طبل العم (جابر) رحمه الله.
أما علاقتي المباشرة بمدينة (عفرين) فبدأت في خريف سنة (1954م)، حينما بلغت التاسعة من عمري، وصدّقوني أن تلك العلاقة كانت – بالنسبة لي- شبيهة باكتشاف كولومبس قارة أمريكا.. أذكر أن والدتي- رحمها الله- أعدّت مساء ذات يوم خريفي من تلك السنة دشداشتي (ثوب واحد طويل) الجديدة، واعتنت بتنظيف حذائي (التاسومة)، ثم أخبرني والدي – رحمه الله - أن عليّ صباح الغد الذهاب مع خالي (شكري) إلى عفرين، لأسجّل اسمي في المدرسة الابتدائية.
يا الله!.. كم كان وقع ذاك الخبر عليّ مدهشًا!
شعرت حينذاك بمزيج غريب من الفرح والخوف معًا!
أما الفرح فبالانتقال من القارة القديمة (قرزيحل) إلى القارة الجديدة (عفرين).. الفرح بالخلاص من لسعات عصا شيخ الكُتّاب الطويلة (كان والدي رحمه الله يقوم بالتعليم في الكُتّاب أحيانًا)، وبارتداء البنطال بدل الدشداشة، وبانتعال الحذاء بدل (التاسومة).. الفرح بمقاربة أكياس الكعك الشهي، ورؤية علب السكاكر الملوّنة المعروضة في الحوانيت، وكم كنت في شوق إلى رؤية ذاك المدفع (الطوب) الذي كثيرًا ما كنا نطرب لسماع هديره، ونجهل شكله وكيفية عمله!
وأما الخوف فكان من الحياة الجديدة التي ما كنت أعرف لونها ولا طعمها ولا إيقاعها، ومن البيئة الجديدة التي كنت أجهل مداخلها ومخارجها، ومن الأساتذة الذين كنت أسمع عنهم أخبارًا جعلتني أتصوّرهم على نحو غير مريح.
لقد علمت من الجيل الذي سبقنا إلى الدراسة في عفرين – ومنهم الخال شكري - أن معظم الأساتذة من أبناء المدن (حلب وغيرها).. لهم هندام مرتّب، وشعور مصقولة، وبعضهم يضع نظارات أنيقة.. لكنهم نادراً ما يبتسمون، وكثيراً ما تبدو ملامحهم متجهّمة، ويحملون على الدوام عصيّاً لسعاتها لا ترحم، ثم إنهم يسرعون إلى الغضب، ويتفنّنون في السخرية منا- نحن أولاد الفلاحين - ويكثرون من العقاب، ويقتّرون في الثوب.
وعلى أية حال.. لم يكن ثمة مفر من تنفيذ أوامر الوالد.
وكان لا بد من أن أرمي بنفسي في ذلك العالم الجديد المفرح المخيف.
وفي صباح اليوم التالي أقبل عليّ الخال (شكري) بابتسامته المعهودة، قائلاً:
هيا بنا إلى عفرين
ليس هذا العنوان ضربًا من المبالغة.
وليس القصد منه هو الإثارة والتهويل.
وإنما هو يجسّد الحقيقة بكل نصاعتها ونقائها وصدقها.
وحين أرجع بالذاكرة إلى ما قبل التاسعة من عمري لا أذكر أشياء كثيرة عن مدينة (عِفْرين)، وكأنما كانت تقع في قارة أخرى، رغم أن قريتي (قرزيحل) لا تبعد عنها سوى مسافة خمسة كيلو مترات فقط.
بلى، لا أذكر عن (عفرين) تلك الأيام إلا أمورًا ثلاثة:
· كسوة الثياب الجديدة التي كان الأهل يشترونها لنا.
· أنواع السكاكر والحلوى التي كانوا يتحفوننا بها.. وكم كنا نجدها لذيذة!
· دويّ المدفع (الطوب) الذي كنا نبتهج لسماعه، كان دويّه الراعد إيذاناً ببدء شهر رمضان، وبشرى بقدوم عيدي الفطر والأضحى.. كان ذلك الدويّ يدخل الفرحة إلى حياتنا نحن الأطفال والصبية.. إنه كان يعني – من جملة ما يعني- ثيابًا جديدة، وكثيرًا من الكعك والشراب والحلوى، ومزيدًا من اللعب والأراجيح، وكثيراً من حلقات الدبكة على الأنغام الشجية لمزمار الراعي العم (عبدو) رحمه الله، وعلى دقات طبل العم (جابر) رحمه الله.
أما علاقتي المباشرة بمدينة (عفرين) فبدأت في خريف سنة (1954م)، حينما بلغت التاسعة من عمري، وصدّقوني أن تلك العلاقة كانت – بالنسبة لي- شبيهة باكتشاف كولومبس قارة أمريكا.. أذكر أن والدتي- رحمها الله- أعدّت مساء ذات يوم خريفي من تلك السنة دشداشتي (ثوب واحد طويل) الجديدة، واعتنت بتنظيف حذائي (التاسومة)، ثم أخبرني والدي – رحمه الله - أن عليّ صباح الغد الذهاب مع خالي (شكري) إلى عفرين، لأسجّل اسمي في المدرسة الابتدائية.
يا الله!.. كم كان وقع ذاك الخبر عليّ مدهشًا!
شعرت حينذاك بمزيج غريب من الفرح والخوف معًا!
أما الفرح فبالانتقال من القارة القديمة (قرزيحل) إلى القارة الجديدة (عفرين).. الفرح بالخلاص من لسعات عصا شيخ الكُتّاب الطويلة (كان والدي رحمه الله يقوم بالتعليم في الكُتّاب أحيانًا)، وبارتداء البنطال بدل الدشداشة، وبانتعال الحذاء بدل (التاسومة).. الفرح بمقاربة أكياس الكعك الشهي، ورؤية علب السكاكر الملوّنة المعروضة في الحوانيت، وكم كنت في شوق إلى رؤية ذاك المدفع (الطوب) الذي كثيرًا ما كنا نطرب لسماع هديره، ونجهل شكله وكيفية عمله!
وأما الخوف فكان من الحياة الجديدة التي ما كنت أعرف لونها ولا طعمها ولا إيقاعها، ومن البيئة الجديدة التي كنت أجهل مداخلها ومخارجها، ومن الأساتذة الذين كنت أسمع عنهم أخبارًا جعلتني أتصوّرهم على نحو غير مريح.
لقد علمت من الجيل الذي سبقنا إلى الدراسة في عفرين – ومنهم الخال شكري - أن معظم الأساتذة من أبناء المدن (حلب وغيرها).. لهم هندام مرتّب، وشعور مصقولة، وبعضهم يضع نظارات أنيقة.. لكنهم نادراً ما يبتسمون، وكثيراً ما تبدو ملامحهم متجهّمة، ويحملون على الدوام عصيّاً لسعاتها لا ترحم، ثم إنهم يسرعون إلى الغضب، ويتفنّنون في السخرية منا- نحن أولاد الفلاحين - ويكثرون من العقاب، ويقتّرون في الثوب.
وعلى أية حال.. لم يكن ثمة مفر من تنفيذ أوامر الوالد.
وكان لا بد من أن أرمي بنفسي في ذلك العالم الجديد المفرح المخيف.
وفي صباح اليوم التالي أقبل عليّ الخال (شكري) بابتسامته المعهودة، قائلاً:
هيا بنا إلى عفرين