الدولة العثمانية
شهدت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حركة قومية قادها مصطفى كمال أتاتورك أي (أبو الترك) الذي ألغى السلطنة و أعلن تركيا جمهورية فتولى رئاستها عام 1923 م حتى وفاته عام 1938 م و قد تمكن من استبدال المبادىء الإسلامية بأعراف قومية علمانية و استبدل الكتابة في تركيا من العربية إلى اللاتينية خلفه (عصمت اينونو) حتى عام 1950 م
حاول أتاتورك أن يفرض القبعة على الشعب بالقانون وببطش الدولة، فاتخذ العلماء من هذا الأمر وسيلة لمواجهة الهجمة العلمانية، فظهرت فتاوى عن حكم صلاة الرجل بالقبعة، وغالى البعض فحكم بكفر من يرتديها، فقاوموها حتى الموت، باعتبارها رمزًا لنموذج مرفوض. وكان الصراع في تلك الفترة بين النظام السياسي والشعب المسلم فقبض هذا الشعب على الإسلام في قلبه المؤمن، وتجاهل القوانين العلمانية، واتجه العلماء إلى بناء الإسلام سرًّا في النفوس؛ فظهر العالم الجليل الشيخ "سلمان حلمي" الذي اهتم بتحفيظ القرآن الكريم، فكان يستأجر المزارع البعيدة عن المدن، ويأخذ طلبته معه يعملون في الحقل بالنهار، ويدرسون القرآن الكريم بالليل، في إصرار عجيب على المحافظة على الإسلام والقرآن. وكانت "الطريقة النقشبندية" بزعامة الشهيد "عاطف الإسكليبي" الذي أُعدم بسبب كتاباته ضد القبعة. وكان الشيخ "سعيد النورسي" صاحب "رسائل النور" الذي رفض تغريب تركيا، وحارب الإلحاد.
وبدأت الحرب على الأبجدية العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية، فصدر قانون بالكتابة بالأبجدية اللاتينية، ونُقِّيت التركية من الكلمات الفارسية والعربية، فأصبح الأذان للصلاة بالتركية. وكم من العلماء شُنقوا وعُلقت أجسادهم أمام المساجد لأنهم رفعوا الأذان باللغة العربية. ثم جاءت الهجمة الشرسة على أسماء الشعب وهي ما عُرفت بـ"معركة الألقاب"، وبدا واضحًا أن أتاتورك ورجاله يسعون لتغيير دين الشعب وهيئته وأسماءه بعيدًا عن الإسلام؛ ففي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزي العربي ليتجه بها نحو الجزيرة العربية، وعُلقت على رقاب الإبل لافتة تقول: "جاءت من الصحراء، ولتعد إلى الصحراء، وجاءت من العرب، فلتذهب إلى العرب".
نشأة الجمهورية التركية
المقال الرئيسي: نشأة الجمهورية التركية
في الرابع من مارس قبل 83 عاماً، وفي عام 1924م ألغيت آخر خلافة إسلامية، الخلافة العثمانية.. ورغم أهمية وخطورة الحدث على مسار الأمة الإسلامية، ما زالت الكثير من تفاصيله غير معروفة تماماً؛ بسبب ستار الغموض الذي فرضه العسكر على العديد من الحوادث التي جرت في الفترة الأولى من العهد الجمهوري التركي.. فلم يسمح بنشر مذكرات الخليفة عبدالمجيد، وهو آخر خليفة.. وتقع هذه المذكرات في 12 مجلداً، تحوي الكثير من الأسرار والمؤامرات التي حيكت ضده، وكذا مذكرات السيدة "لطيفة أوشاكلي كيل" زوجة مصطفى كمال. وكما هو معلوم فقد انتهى هذا الزواج بالطلاق بعد فترة قصيرة. .
حظر نشر المذكرات التاريخية: وهذه المذكرات في شكل دفاتر عديدة، وهي موجودة الآن لدى "لجنة التاريخ التركي"، وفي صندوق حديدي، لا يسمح لأي مؤرخ بالاطلاع عليها، بدعوى أن فيها ما يسيء إلى صورة مصطفى كمال، لذا فلا يجب أن تطلع الجماهير عليها، لكي لا تهتز الصورة الجميلة لمصطفى كمال التي تم حفرها في أذهان الجميع كقائد وبطل تاريخي أنقذ الوطن من الأجانب وأسس الجمهورية التركية الحديثة. كما منع نشر القسم الأعظم من مذكرات القائد التركي المشهور المارشال فوزي جاقماق وزير الدفاع في عهد مصطفى كمال (الذي كان معروفاً بتدينه الشديد) والتي تناول فيها حرب الاستقلال التي خاضها جنباً إلى جنب مع مصطفى كمال ومع القواد الوطنيين، وما جرى من أحداث في تلك الفترة. وقد ارتفعت بعض أصوات المفكرين والمثقفين وبعض المؤرخين، طالبة الإفراج عن هذه المذكرات، انطلاقاً من كون مصطفى كمال إنساناً يخطئ ويصيب، فيما يصر العسكر على استمرار الحظر حتى الآن!
بداية المؤامرة
دعونا نحاول تسليط بعض الأضواء على موضوع إلغاء الخلافة، وكيف جرى وما رافقه من أحداث، وإن كنا نعترف بأن هناك معلومات قيمة حول هذا الموضوع لم يكشف عنها النقاب حتى الآن. في أثناء حرب الاستقلال (التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي حررت تركيا من المعاهدات الجائرة التي فرضت على الدولة العثمانية المغلوبة، وخلصت الوطن من الاحتلال الأجنبي في النهاية) كانت هناك لفترة حكومتان: حكومة يقودها مصطفى كمال ومقرها في أنقرة ولها برلمان، وحكومة في إسطنبول على رأسها الخليفة وحيد الدين الذي كان في الحقيقة أسيراً لدى قوات دول الحلفاء المحتلة لإسطنبول، وعلى رأسها بريطانيا. وبعد النصر العسكري الذي أحرزته تركيا في حروب الاستقلال، وفي أثناء هدنة "مودانيا" تقرر البدء بالمفاوضات بين تركيا ودول الحلفاء.. ضمت الاجتماعات (بريطانية، فرنسا، إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية "كمراقب") في 3 11-10-1922م، بمدينة "لوزان" بسويسرا. وعندما علمت حكومة أنقرة عزم بريطانيا ودول الحلفاء دعوة حكومة إسطنبول أيضاً للمفاوضات، قامت بإلغاء السلطنة للحيلولة دون إشراك تلك الحكومة، بحجة ألا يكون هناك ممثلان عن تركيا، يختلفان في وجهات النظر في العديد من المسائل.. وأصبحت هي الممثل الوحيد في تلك المفاوضات.
تفاصيل السيناريو
وتم الإلغاء كما يأتي: في 1-11-1922م قام صديقان من أصدقاء مصطفى كمال في المجلس النيابي، وهما د.رضا نور(1) وحسين عوني بتقديم مشروع إلى المجلس النيابي، يقترح فصل السلطنة عن الخلافة. ومن ثم لم يعد الخليفة يملك سلطة سياسية، بل تحول إلى رمز ديني فقط. ووافق المجلس على المشروع فتم فصل السلطنة عن الخلافة. وهكذا حيل بين الدول وبين دعوة حكومة إسطنبول إلى المباحثات، وأصبحت أنقرة الحكومة الوحيدة التي تمثل تركيا سياسياً.
وخشي السلطان وحيد الدين على نفسه، فهرب من إسطنبول في بارجة بريطانية. بعد هذا الهرب بقي منصب الخلافة شاغراً، وكان لا بد من شغله، فتقدم نائب "قونية" السيد وهبي أفندي إلى المجلس بالاتفاق مع أتاتورك باقتراح حول انتخاب خليفة. وتم التصويت في البرلمان واختير عبدالمجيد الثاني خليفة، إذ نال 148 صوتاً من مجموع 162 صوتاً. وقام مصطفى كمال باعتباره رئيس الحكومة بإبلاغ النتيجة إلى الخليفة المنتخب، ولكنه في اليوم نفسه أدلى بتصريح إلى صحيفة "أقشام" قال فيه: "إن أسعد فترات تاريخنا هي الفترات التي لم يكن فيها حكامنا خلفاء. كما أن الفرس والأفغان ومسلمي إفريقيا لم يعترفوا بخليفة إسطنبول.. لقد أبقينا الخليفة احتراماً لتقاليد سابقة نجلها، ونحن نحترم الخليفة". ويكشف هذا التصريح بوضوح موقف مصطفى كمال من الخلافة، مشيراً إلى أن الدور سيأتي لإلغاء الخلافة أيضاً.
تجاذبات سياسية
وتتابعت الأحداث السياسية التي سرّعت بقرار إلغاء الخلافة، حيث اشتدت معارضة بعض النواب في البرلمان في أنقرة ضد مصطفى كمال، انطلاقاً من خطورة التغييرات السياسية والاجتماعية الجذرية التي أقدم عليها أتاتورك.. وفي 29-10-1923م تم إعلان الجمهورية وانتخب مصطفى كمال رئيساً للجمهورية، فأصبح هناك رئيس جمهورية في أنقرة يمثل السيادة والقوة السياسية، وخليفة في إسطنبول يمثل الرمز الديني للمسلمين.
واشتدت المعارضة ضد مصطفى كمال، وقادت صحف إسطنبول حركة المعارضة. وفي أثناء مفاوضات لوزان (الذي كان عصمت إينونو رئيساً للوفد التركي فيها) ظهرت خلافات كبيرة بين السيد عصمت إينونو والسيد حسين رؤوف أورباي (الذي كان رئيساً للوزراء في أنقرة). وأدلى السيد حسين رؤوف بتصريح لإحدى الصحف الصادرة في إسطنبول قال فيه: إن إعلان الجمهورية كان عملاً متسرعاً. وقد عد مصطفى كمال هذا التصريح معادياً له وللنظام الجمهوري، وزاد قلق مصطفى كمال وقلق أنصاره وقلق "حزب الشعب" الذي أنشأه.. وعندما قام "حسين رؤوف" و"عدنان آدي وار" و"رفعت باشا" بزيارة الخليفة عبدالمجيد في إسطنبول، فسرت هذه الزيارة بأنها محاولة لإجهاض النظام الجمهوري ولإرجاع نظام السلطنة مرة أخرى، وأن هناك مؤامرة في هذا الخصوص يشترك فيها الخليفة محمد وحيد عبدالمجيد وأنصاره.
كما جرت أحداث خارجية زادت من هذا القلق، إذ قام السيد أمير علي رئيس الجمعية الإسلامية في لندن بكتابة رسالة بتاريخ 5-12-1923 إلى عصمت إينونو (الذي عين رئيسا للوزراء بعد إقالة السيد حسين رؤوف) شرح فيها أهمية الخلافة في الدين الإسلامي طالباً المحافظة عليها. وقبل أن تصل هذه الرسالة إلى عصمت إينونو، سربت إلى بعض الصحف في إسطنبول لغرض الضغط على أنقرة. عبدالمجيد الثاني
على إثر هذه التطورات طلب عصمت إينونو عقد جلسة سرية لحزب الشعب في 8-12-1923م لمناقشة الأحداث واتخاذ ما يلزم تجاهها... وفي اليوم نفسه قامت الحكومة التي أصبحت الحكومة الوحيدة في تركيا بتأسيس محكمة في إسطنبول قامت بالقبض على الصحفيين الذين نشروا تلك الرسالة؛ منهم "حسين جاهد يالجين" و"أحمد جودت" و"وليد أبوالضياء". ولكن المحكمة قضت ببراءة هؤلاء الصحفيين وبحبس السيد لطفي فكري (رئيس نقابة المحامين) خمس سنوات لأنه أرسل رسالة إلى الخليفة يطلب منه عدم الاستقالة.
وفي هذه الفترة زادت الضغوط البريطانية على الحكومة التركية لإلغاء الخلافة.. لأن قلوب المسلمين كانت لاتزال معلقة بمقام الخلافة، وكان ارتباط المسلمين في المستعمرات البريطانية في (الهند ومصر والعراق..) بالخلافة، يقلق الحكومة البريطانية... لذا يؤكد العديد من المؤرخين وجود بنود سرية في معاهدة لوزان، فرضت على تركيا إلغاء الخلافة. حجج واهية لإنهاء 1300 سنة: وتتابعت الأحداث التي مهدت لإلغاء الخلافة، فعقد حزب الشعب عدة جلسات للتداول في هذا الأمر، وقرر إلغاء الخلافة. ونشرت صحيفة "الوطن" خبراً، فاجأ الشعب مفاجأة كبيرة وأذهله، وهو قيام نائب مدينة "أورفة" الشيخ "صفت أفندي" باسم نواب قارب عددهم الستين نائباً بطلب إلى المجلس النيابي لإلغاء الخلافة ونفي الخليفة وعائلته من تركيا.. واجتمع المجلس النيابي في 1-3- 1924م... وفي خطبة الافتتاح قال مصطفى كمال: "إن هذه الأمة تريد الحفاظ على الجمهورية الآن وإلى الأبد تجاه جميع أنواع الهجوم، وصيانتها بكل حزم. لا يمكن إبقاء أي كابوس معلقاً على هامة هذه الأمة التركية". وفي 3-3-1924م عقد المجلس النيابي جلسة تاريخية لتقرير مصير الخلافة.. لم تستغرق سوى ثلاث ساعات ونصف الساعة...
ثم صدر القرار بإلغاء الخلافة التي استمرت أكثر من 1300 سنة. وذراً للرماد في العيون، أكد المجلس بأنه سيضطلع بواجبات الخلافة ويقوم بشؤونها أي أن مؤسسة الخلافة مندمجة من الناحية النظرية في الشخصية المعنوية للمجلس النيابي التركي. وفي يوم 4-3-1924 نفى الخليفة عبدالمجيد بن عبدالعزيز (عبدالمجيد الثاني) مع أفراد عائلته وأقربائه وجميع أفراد آل عثمان إلى خارج البلد، وصودرت ثرواتهم... وكانت فترة خلافته وهو الخليفة العشرون بعد المائة عاماً وثلاثة أشهر.
شهدت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حركة قومية قادها مصطفى كمال أتاتورك أي (أبو الترك) الذي ألغى السلطنة و أعلن تركيا جمهورية فتولى رئاستها عام 1923 م حتى وفاته عام 1938 م و قد تمكن من استبدال المبادىء الإسلامية بأعراف قومية علمانية و استبدل الكتابة في تركيا من العربية إلى اللاتينية خلفه (عصمت اينونو) حتى عام 1950 م
حاول أتاتورك أن يفرض القبعة على الشعب بالقانون وببطش الدولة، فاتخذ العلماء من هذا الأمر وسيلة لمواجهة الهجمة العلمانية، فظهرت فتاوى عن حكم صلاة الرجل بالقبعة، وغالى البعض فحكم بكفر من يرتديها، فقاوموها حتى الموت، باعتبارها رمزًا لنموذج مرفوض. وكان الصراع في تلك الفترة بين النظام السياسي والشعب المسلم فقبض هذا الشعب على الإسلام في قلبه المؤمن، وتجاهل القوانين العلمانية، واتجه العلماء إلى بناء الإسلام سرًّا في النفوس؛ فظهر العالم الجليل الشيخ "سلمان حلمي" الذي اهتم بتحفيظ القرآن الكريم، فكان يستأجر المزارع البعيدة عن المدن، ويأخذ طلبته معه يعملون في الحقل بالنهار، ويدرسون القرآن الكريم بالليل، في إصرار عجيب على المحافظة على الإسلام والقرآن. وكانت "الطريقة النقشبندية" بزعامة الشهيد "عاطف الإسكليبي" الذي أُعدم بسبب كتاباته ضد القبعة. وكان الشيخ "سعيد النورسي" صاحب "رسائل النور" الذي رفض تغريب تركيا، وحارب الإلحاد.
وبدأت الحرب على الأبجدية العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية، فصدر قانون بالكتابة بالأبجدية اللاتينية، ونُقِّيت التركية من الكلمات الفارسية والعربية، فأصبح الأذان للصلاة بالتركية. وكم من العلماء شُنقوا وعُلقت أجسادهم أمام المساجد لأنهم رفعوا الأذان باللغة العربية. ثم جاءت الهجمة الشرسة على أسماء الشعب وهي ما عُرفت بـ"معركة الألقاب"، وبدا واضحًا أن أتاتورك ورجاله يسعون لتغيير دين الشعب وهيئته وأسماءه بعيدًا عن الإسلام؛ ففي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزي العربي ليتجه بها نحو الجزيرة العربية، وعُلقت على رقاب الإبل لافتة تقول: "جاءت من الصحراء، ولتعد إلى الصحراء، وجاءت من العرب، فلتذهب إلى العرب".
نشأة الجمهورية التركية
المقال الرئيسي: نشأة الجمهورية التركية
في الرابع من مارس قبل 83 عاماً، وفي عام 1924م ألغيت آخر خلافة إسلامية، الخلافة العثمانية.. ورغم أهمية وخطورة الحدث على مسار الأمة الإسلامية، ما زالت الكثير من تفاصيله غير معروفة تماماً؛ بسبب ستار الغموض الذي فرضه العسكر على العديد من الحوادث التي جرت في الفترة الأولى من العهد الجمهوري التركي.. فلم يسمح بنشر مذكرات الخليفة عبدالمجيد، وهو آخر خليفة.. وتقع هذه المذكرات في 12 مجلداً، تحوي الكثير من الأسرار والمؤامرات التي حيكت ضده، وكذا مذكرات السيدة "لطيفة أوشاكلي كيل" زوجة مصطفى كمال. وكما هو معلوم فقد انتهى هذا الزواج بالطلاق بعد فترة قصيرة. .
حظر نشر المذكرات التاريخية: وهذه المذكرات في شكل دفاتر عديدة، وهي موجودة الآن لدى "لجنة التاريخ التركي"، وفي صندوق حديدي، لا يسمح لأي مؤرخ بالاطلاع عليها، بدعوى أن فيها ما يسيء إلى صورة مصطفى كمال، لذا فلا يجب أن تطلع الجماهير عليها، لكي لا تهتز الصورة الجميلة لمصطفى كمال التي تم حفرها في أذهان الجميع كقائد وبطل تاريخي أنقذ الوطن من الأجانب وأسس الجمهورية التركية الحديثة. كما منع نشر القسم الأعظم من مذكرات القائد التركي المشهور المارشال فوزي جاقماق وزير الدفاع في عهد مصطفى كمال (الذي كان معروفاً بتدينه الشديد) والتي تناول فيها حرب الاستقلال التي خاضها جنباً إلى جنب مع مصطفى كمال ومع القواد الوطنيين، وما جرى من أحداث في تلك الفترة. وقد ارتفعت بعض أصوات المفكرين والمثقفين وبعض المؤرخين، طالبة الإفراج عن هذه المذكرات، انطلاقاً من كون مصطفى كمال إنساناً يخطئ ويصيب، فيما يصر العسكر على استمرار الحظر حتى الآن!
بداية المؤامرة
دعونا نحاول تسليط بعض الأضواء على موضوع إلغاء الخلافة، وكيف جرى وما رافقه من أحداث، وإن كنا نعترف بأن هناك معلومات قيمة حول هذا الموضوع لم يكشف عنها النقاب حتى الآن. في أثناء حرب الاستقلال (التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي حررت تركيا من المعاهدات الجائرة التي فرضت على الدولة العثمانية المغلوبة، وخلصت الوطن من الاحتلال الأجنبي في النهاية) كانت هناك لفترة حكومتان: حكومة يقودها مصطفى كمال ومقرها في أنقرة ولها برلمان، وحكومة في إسطنبول على رأسها الخليفة وحيد الدين الذي كان في الحقيقة أسيراً لدى قوات دول الحلفاء المحتلة لإسطنبول، وعلى رأسها بريطانيا. وبعد النصر العسكري الذي أحرزته تركيا في حروب الاستقلال، وفي أثناء هدنة "مودانيا" تقرر البدء بالمفاوضات بين تركيا ودول الحلفاء.. ضمت الاجتماعات (بريطانية، فرنسا، إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية "كمراقب") في 3 11-10-1922م، بمدينة "لوزان" بسويسرا. وعندما علمت حكومة أنقرة عزم بريطانيا ودول الحلفاء دعوة حكومة إسطنبول أيضاً للمفاوضات، قامت بإلغاء السلطنة للحيلولة دون إشراك تلك الحكومة، بحجة ألا يكون هناك ممثلان عن تركيا، يختلفان في وجهات النظر في العديد من المسائل.. وأصبحت هي الممثل الوحيد في تلك المفاوضات.
تفاصيل السيناريو
وتم الإلغاء كما يأتي: في 1-11-1922م قام صديقان من أصدقاء مصطفى كمال في المجلس النيابي، وهما د.رضا نور(1) وحسين عوني بتقديم مشروع إلى المجلس النيابي، يقترح فصل السلطنة عن الخلافة. ومن ثم لم يعد الخليفة يملك سلطة سياسية، بل تحول إلى رمز ديني فقط. ووافق المجلس على المشروع فتم فصل السلطنة عن الخلافة. وهكذا حيل بين الدول وبين دعوة حكومة إسطنبول إلى المباحثات، وأصبحت أنقرة الحكومة الوحيدة التي تمثل تركيا سياسياً.
وخشي السلطان وحيد الدين على نفسه، فهرب من إسطنبول في بارجة بريطانية. بعد هذا الهرب بقي منصب الخلافة شاغراً، وكان لا بد من شغله، فتقدم نائب "قونية" السيد وهبي أفندي إلى المجلس بالاتفاق مع أتاتورك باقتراح حول انتخاب خليفة. وتم التصويت في البرلمان واختير عبدالمجيد الثاني خليفة، إذ نال 148 صوتاً من مجموع 162 صوتاً. وقام مصطفى كمال باعتباره رئيس الحكومة بإبلاغ النتيجة إلى الخليفة المنتخب، ولكنه في اليوم نفسه أدلى بتصريح إلى صحيفة "أقشام" قال فيه: "إن أسعد فترات تاريخنا هي الفترات التي لم يكن فيها حكامنا خلفاء. كما أن الفرس والأفغان ومسلمي إفريقيا لم يعترفوا بخليفة إسطنبول.. لقد أبقينا الخليفة احتراماً لتقاليد سابقة نجلها، ونحن نحترم الخليفة". ويكشف هذا التصريح بوضوح موقف مصطفى كمال من الخلافة، مشيراً إلى أن الدور سيأتي لإلغاء الخلافة أيضاً.
تجاذبات سياسية
وتتابعت الأحداث السياسية التي سرّعت بقرار إلغاء الخلافة، حيث اشتدت معارضة بعض النواب في البرلمان في أنقرة ضد مصطفى كمال، انطلاقاً من خطورة التغييرات السياسية والاجتماعية الجذرية التي أقدم عليها أتاتورك.. وفي 29-10-1923م تم إعلان الجمهورية وانتخب مصطفى كمال رئيساً للجمهورية، فأصبح هناك رئيس جمهورية في أنقرة يمثل السيادة والقوة السياسية، وخليفة في إسطنبول يمثل الرمز الديني للمسلمين.
واشتدت المعارضة ضد مصطفى كمال، وقادت صحف إسطنبول حركة المعارضة. وفي أثناء مفاوضات لوزان (الذي كان عصمت إينونو رئيساً للوفد التركي فيها) ظهرت خلافات كبيرة بين السيد عصمت إينونو والسيد حسين رؤوف أورباي (الذي كان رئيساً للوزراء في أنقرة). وأدلى السيد حسين رؤوف بتصريح لإحدى الصحف الصادرة في إسطنبول قال فيه: إن إعلان الجمهورية كان عملاً متسرعاً. وقد عد مصطفى كمال هذا التصريح معادياً له وللنظام الجمهوري، وزاد قلق مصطفى كمال وقلق أنصاره وقلق "حزب الشعب" الذي أنشأه.. وعندما قام "حسين رؤوف" و"عدنان آدي وار" و"رفعت باشا" بزيارة الخليفة عبدالمجيد في إسطنبول، فسرت هذه الزيارة بأنها محاولة لإجهاض النظام الجمهوري ولإرجاع نظام السلطنة مرة أخرى، وأن هناك مؤامرة في هذا الخصوص يشترك فيها الخليفة محمد وحيد عبدالمجيد وأنصاره.
كما جرت أحداث خارجية زادت من هذا القلق، إذ قام السيد أمير علي رئيس الجمعية الإسلامية في لندن بكتابة رسالة بتاريخ 5-12-1923 إلى عصمت إينونو (الذي عين رئيسا للوزراء بعد إقالة السيد حسين رؤوف) شرح فيها أهمية الخلافة في الدين الإسلامي طالباً المحافظة عليها. وقبل أن تصل هذه الرسالة إلى عصمت إينونو، سربت إلى بعض الصحف في إسطنبول لغرض الضغط على أنقرة. عبدالمجيد الثاني
على إثر هذه التطورات طلب عصمت إينونو عقد جلسة سرية لحزب الشعب في 8-12-1923م لمناقشة الأحداث واتخاذ ما يلزم تجاهها... وفي اليوم نفسه قامت الحكومة التي أصبحت الحكومة الوحيدة في تركيا بتأسيس محكمة في إسطنبول قامت بالقبض على الصحفيين الذين نشروا تلك الرسالة؛ منهم "حسين جاهد يالجين" و"أحمد جودت" و"وليد أبوالضياء". ولكن المحكمة قضت ببراءة هؤلاء الصحفيين وبحبس السيد لطفي فكري (رئيس نقابة المحامين) خمس سنوات لأنه أرسل رسالة إلى الخليفة يطلب منه عدم الاستقالة.
وفي هذه الفترة زادت الضغوط البريطانية على الحكومة التركية لإلغاء الخلافة.. لأن قلوب المسلمين كانت لاتزال معلقة بمقام الخلافة، وكان ارتباط المسلمين في المستعمرات البريطانية في (الهند ومصر والعراق..) بالخلافة، يقلق الحكومة البريطانية... لذا يؤكد العديد من المؤرخين وجود بنود سرية في معاهدة لوزان، فرضت على تركيا إلغاء الخلافة. حجج واهية لإنهاء 1300 سنة: وتتابعت الأحداث التي مهدت لإلغاء الخلافة، فعقد حزب الشعب عدة جلسات للتداول في هذا الأمر، وقرر إلغاء الخلافة. ونشرت صحيفة "الوطن" خبراً، فاجأ الشعب مفاجأة كبيرة وأذهله، وهو قيام نائب مدينة "أورفة" الشيخ "صفت أفندي" باسم نواب قارب عددهم الستين نائباً بطلب إلى المجلس النيابي لإلغاء الخلافة ونفي الخليفة وعائلته من تركيا.. واجتمع المجلس النيابي في 1-3- 1924م... وفي خطبة الافتتاح قال مصطفى كمال: "إن هذه الأمة تريد الحفاظ على الجمهورية الآن وإلى الأبد تجاه جميع أنواع الهجوم، وصيانتها بكل حزم. لا يمكن إبقاء أي كابوس معلقاً على هامة هذه الأمة التركية". وفي 3-3-1924م عقد المجلس النيابي جلسة تاريخية لتقرير مصير الخلافة.. لم تستغرق سوى ثلاث ساعات ونصف الساعة...
ثم صدر القرار بإلغاء الخلافة التي استمرت أكثر من 1300 سنة. وذراً للرماد في العيون، أكد المجلس بأنه سيضطلع بواجبات الخلافة ويقوم بشؤونها أي أن مؤسسة الخلافة مندمجة من الناحية النظرية في الشخصية المعنوية للمجلس النيابي التركي. وفي يوم 4-3-1924 نفى الخليفة عبدالمجيد بن عبدالعزيز (عبدالمجيد الثاني) مع أفراد عائلته وأقربائه وجميع أفراد آل عثمان إلى خارج البلد، وصودرت ثرواتهم... وكانت فترة خلافته وهو الخليفة العشرون بعد المائة عاماً وثلاثة أشهر.