من هم الأكراد
ينتسب الأكراد إلى أرض كردستان التي يذكر المؤرخون أنها تمتد من جبال آرارات شـمالا إلى جبال حمرين جنوبا ، ومن لورسـتان شرقا إلى ملاطية غربا ، وتقدر مسـاحتها بحوالي 500 ألف كم مربع كان أول تقسيم لكردستان في عام 1415 م تم بين العثمانيين الأتراك - والصفويين الفرس وفي عام 1920 ألحق الجزء الجنوبي بالدولة العراقية الحديثة على حين ألحق الجزء الجنوبي الغربي عام 1926 م بالدولة السورية ، و كلمة كرد تعني البطل ، و لقد أطلق السومريون عليهم : "كوتي ، جوتي " والآشوريون والآراميون أسموهم : "كوتي ، كورتي،كارتي، كالدي، كارو، كارداك، خلدي، خالدي" على حين أن الآريين أسموهم: كورتيوى، سـيرتي، كورداها" أما اليونانيون والرومان فقد أسموهم " كاردوسوي ، كاردوخي ، كاردوك ، كردوكي ، كردوخي ، والأرمن أسموهم: "كورئين ، كورجيخ ، كورتيخ ، كرخي ، كورخي" ، والعرب كرد ، أكراد .
اللغة الكردية :
اللغة الكردية لغة هندو–أورپية من المجموعة الإيرانية. ولها قرابة قوية مع اللغة الفارسية. وهي من اللغات التي قاومت الاندثار بسبب الحروب والاحتلال وسياسات الدول التي حكمت بلاد الأكراد على مر التاريخ. وهي لغة غنية جداً بلهجات عدة ساهمت في غناها بالمفردات والمصطلحات. ومن أهم لهجاتها:
الكرمانجية: ويتكلم بها حوالي (70%) من الأكراد، منتشرين في كردستان الشمالية والجنوبية الغربية وجزء كبير من كردستان الجنوبية وبعض المدن في كردستان الشرقية.
السورانية: ويتكلم بها حوالي (25%) من الأكراد (السليمانية وكركوك وكرماشان ومه آباد ... ).
الزازائية: تنتشر في كردستان الشمالية في المناطق (سويرك، ديرسم، آگري ..). وبعض اللهجات الأخرى مثل اللُريّة (إيران)، والفيلية (العراق–خانقين، وَديالى)، والكورانية والبختياري وغيرها . فالباحث و الشاعر الكردي " صالح حيدو " أشار إلى أن : ( الشعراء الذين يكتبون بغير الكردية لا يصنفون ضمن الشعراء الأكراد و الشعر المكتوب بغير الكردية ليس شعرا ً كرديا ً ، و الشعراء الذين يكتبون مثل هذا الشعر يدخلون في عداد شعراء اللغة الذين يكتبون بها و دواوينهم لا تصنف ضمن المكتبة الكردية ) .
تطور الشعر الكردي من البدايات الصوفية و حتى الشعرية الحديثة :
لم تعتبر انطلاقة ( على ترموكي ) الغزلية و ( على حريري) اللذين عاشا في القرنين العاشر و الحادي عشر الميلادي انطلاقة حقيقية للأدب الكردي ، و إنما تحسب البداية الحقيقية لازدهار الشعر الكردي في القرنين الرابع عشر و الخامس عشر على يد الملالي الصوفيين ( ملا أحمد جزيري ) الذي عاش ما بين الأعوام 1567- 1631، (ملا أحمد خاني ) الذي عاش في الفترة ما بين 1650- 1708 ، حيث كانت التجربة الصوفية تتجسد في العلاقة ما بين الشاعر و الكون من حوله ممثلة خلفية ثقافية و روحية فتحت الآفاق أمام شعراء الأكراد نحو تأمل الذات و العالم من حولهم مما عمل على تجريب الإيقاعات السريعة و الابتعاد عن صرامة الإيقاع الشعري و برزت المثنويات و الرباعيات و الغزل ذو الأبيات السريعة القليلة العدد و الذي استخدمه الشعراء العارفين لترجمة أحاسيسهم و التزم الشاعر بذكر لقبه الشعري في آخر كل بيت منها ، مر الشعر الكردي بالعديد من مراحل التطور نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية و السياسية و التباعد و التجاذب الجغرافي ، نجح (حاجي قادرى موي) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من تحرير الشعر من واقعيته الكلاسيكية تحررا ً وطنيا ً قوميا ً حيث بدأت الواقعية الاشتراكية في الانتشار و شاع التغني بالأفكار الاجتماعية الحديثة و القيم القومية و تلاشت الرومانسية الى حد كبير ، و في العام 1920 صدح صوت( عبد الله كوران) ، تطور الشعر الكردي خلال القرن العشرين على يد (جيكر خوين) رائد التحديث الشعري الكردي و كذلك( قدري جان و عثمان صبري )و غيرهم ، كما شهد الشعر الكردي تطورا ً رائعا ً على يد الشاعر (شيركو بيكه سي) ، و تسللت قصيدة النثر و الشعر الحر إلى الشعر الكردي من خلال ثورة أدونيس الشعرية و التي حرص على الاستفادة منها أغلب الشعراء الأكراد على رأسهم سليم بركات ، و توجد حاليا العديد و العديد من الأصوات الشعرية الكردية و التي سأحاول الإشارة إلي البعض منها من خلال هذا العرض السريع لتطور الأدب الكردي و رحلة مع أشهر الأسماء التي لمعت في سماء الشعر الكردي على مر القرون.
فقي تيران
ولد الشاعر الكردي الكبير (فقي تيران ) سنة 1302 في قرية (مسكي) التابعة لمنطفة (جولمرك) , حيث اشتهرت اشعاره مدافعا عن الفقراء ولم يكتب للملوك والامراء, وكانت اشعاره منتشرة بين عامة طبقات المجتمع لانه يعتمد على لغة بسيطة وسهلة لذلك كان يفهمها الجميع .كان فقي تيران في قصائده منفتحا على الشعوب الاخرى ايضا حيث كان ينادي الى المساواة والاخوة بين الشعوب توفي فقي تيران سنة 1375 بعد ان ترك لنا قصائد جميلة و رائعة لزال الاكراد يرددنها الى يومنا هذا .يقول :
أنا من تكالبت عليه الهموم
أنا من جرحه القهر
أنا ( فقي تيران )
1567- ملاي جزيري – 1631
يأتي الشاعر الكبير ملا أحمد الجزيري في مقدمة الشعراء الكلاسيكيين الكرد ، و يعتبر قمة شاهقة من قمم الأدب الكردي ، و يذكر دائماً مع أحمد خاني و فقيه تيران كأبرز رواد الشعر الكردي ، و قد كان للجزيري تأثير كبير على معاصريه كفقيه تيران و غيره ، و على معظم الشعراء الكرد الذين جاءوا بعده .
هو أحمد بن محمد الجزيري و قد ذكره أكثر من مرة في قصائده ، لكنه
عرف بـ ( ملاي جزيري ) أو ( الملا ) نسبة إلى مدينة الجزيرة ، الواقعة على ساحل دجلة قرب جبل جودي و التي يسميها الأكراد جزيرة بوتان ، و له لقب آخر أطلقه هوعلى نفسه
( نيشاني( Nîşanî أي الهدف ، لأنه كان هدفاً لسهام المحبة و الهوى أو هدفاً للبلايا و المصائب بسبب عشقه ، ولد في الجزيرة حوالي عام 975م و ينتسب إلى عشيرة البختيه الشهيرة التي كانت تسكن في مدينة الجزيرة و أطرافها .
درس أحمد السنوات الأولى من عمره مبادئ القراءة و حفظ القرآن و الحساب في مساجد و مدارس الجزيرة على أيدي رجال الدين
و بعد أن أنهى دراسته في الجزيرة غادرها طلباً للمزيد من العلم و المعرفة ، فطاف معظم أنحاء كردستان و زار منطقة الهكاري و العمادية و ديار بكر و حصن كيفا ، و كان يتوقف في هذه المناطق ، ليتلقى العلم من علماءها و مشايخها ، فألم بمعظم العلوم المعروفة في عصره كأصول الدين و الفقه و الحديث و الشريعة و الفلسفة ( علم الكلام و النحو و الفلك ) .
أتقن الجزيري إلى جانب الكردية اللغة العربية و التركية و الفارسية. فقد اهتم بالعربية لأنها لغة القرآن و أتقنها و نظم بها الشعر ، أما الفارسية فقد كانت لغة الأدب و الكتابة و الإنشاء فأجادها الجزيري و اطلع من خلالها على نتاج الشعراء الفرس أمثال الشيرازي و الجامي ...
و بعد أن حصل على الإجازة " الشهادة " التي تخوله التدريس و التعليم و نال لقب " الملا " أي العالم بالكردية ، عاد إلى موطنه بلدة الجزيرة ، و أصبح معلماً – شيخاً – في مدرستها الشهيرة " المدرسة الحمراء " اشتهر الجزيري بين الأكراد من خلال شعره الوجداني الإنساني المفعم بالأحاسيس المرهفة و الجياشة و الذي جمع في ديوان الذي يحوي على مائة و إحدى و عشرين قصيدة ، يغلب عليها طابع العشق الإلهي و الغزل المادي البحت ، في الوقت الذي يضعه المتصوفة الكرد في قمة الأدب الصوفي و العشق الإلهي الخالص ، و قد كان الحرمان من الوصل و الفراق موضوعاً هاماً من المواضيع التي وقف عليها الجزيري ، و يعتبر شعره أروع ما قيل في الكردية في موضوع الغزل .
و بالإضافة إلى الغزل تناول في شعره مواضيع عديدة من المديح و الحكمة ، إذ كان يمزج بين الغزل الإلهي و الحكمة ، و أياً كانت مواضيع شعره فقد جاءت قصائده رائعة متناسقة قوية غنية بالصور البيانية دقيقة المعنى ذات موسيقى متنوعة تلائم موضوع القصيدة ، كما كان موفقاً في اختيار تعابيره وصوره البيانية ، و كذلك في حسن اختيار القافية ، و بذلك استطاع أن يسمو بالشعر الكردي إلى مستوى فني رفيع ، ليضعه و باقتدار في مصاف روائع الأدب العالمي .
و من المؤكد أن ملاي جزيري قد نظم قصائد تفوق بكثير مما ورد في ديوانه . كما أنه لا يستبعد أن يكون قد ألف كتباً تتناسب مع علو همته و نصاعة روحه و سمو فكره و طول باعه في مختلف العلوم ، كما يبدو ذلك واضحاً في قصائده التي احتواها ديوانه الوحيد ( الذي شرحه بالعربية الملا أحمد الزفنكي – مفتي القامشلي ) إلا أنها مع الأسف ضاعت مع الكثير من النتاج الكردي و طوتها النسيان و الإهمال .
لقد عمر الجزيري طويلاً فعاش حوالي 75 عاماً و قد توفي في بلدة الجزيرة حوالي عام الخمسين بعد الألف على الأرجح و دفن في قبو أرضي بجنوب المدرسة الحمراء الكائنة بقرب سور مدينة الجزيرة في الجهة الغربية . يقول :
شوخ وشه نكى
شوخ وشه نـكى زوهره ره نـكى دل ز مــن بــر دل ز مــن ئاوريــن هه يبه ت به له نـكى دل ز مــن بــر دل ز مــن
زولف وخــالان نــوون ودالان وان ز مــن بـر دل ب تـالان
كـــوشه يى قه وســى هلالان دل ز مــن بــر دل ز مــن
ديـم نـه ديـرى بـووعه بيرى خه مرى و كـيسـوو حه ريرى
سينه كر ئـامـانـجـى تـيـرى دل ز مــن بــر دل ز مــن
سـور شـرينىنــازه نـيـنـى كــوشـتم ونـاكـت يه قينـى
وى ب جه نـكـالا ئه فـيــنـى دل ز مــن بــر دل ز مــن
1650 -أحمد خاني-1708
((أنا عطار ولست بائع جواهر, أنا قد غرست نفسي, ولم يعن بتربيتي احد, جبلي أنا , من هذه السفوح , وهذه الكلمات تنبع من صميمي الكردي ،فوقعوها بحسن ألطافكم،أصغواإليها بسمع إصغائكم))،بهذه الكلمات يقدم أحمد خاني نفسه لقرائه في ملحمته الخالدة((مم و زين)).
ولد أحمد خاني ابن الشيخ الياس في قرية((خان))بالقرب من مدينة((بيازيد))عام1650م ونسب إليها وقد نسبه البعض إلى عشيرة((خانيان)).تلقى خاني علومه الإبتدائية في الكتاتيب والجوامع ثم في المدارس التي انتشرت في المدن الكبيرة مثل((بيازيد وتبريز وبدليس))وقدظهرت عليه علائم النبوغ وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره،وسعيا وراء المزيد من العلم والمعرفة ترك((بيازيد))وتنقل في المدن فزار عاصمة الدولة العثمانية((الآستانة))ومكث فيها فترة من الزمن يتلقى العلم من مشايخها ثم زار دمشق ومصر،فاطلع على علوم عصره ويلقفها فجمع بين الأدب،ولاسيما الشعر،والفقه الإسلامي والتصوف فذاعت شهرته مقرونة بالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الأمور الدبية والفلسفية والدينية.
قد أتقن أحمد خاني العربية والفارسية والتركية بالإضافة إلى لغته الكردية التي كان يعتز بها ويدعو الشبان الكرد إلى تعلمها والكتابة بها،ومن أجل ذلك راح يفتح المدارس ويتطوع للتعليم فيها بنفسه دون مقابل ومن أجل أن يحبب العلم بالطلاب أعد لهم كتابا ليسهل عليهم التعلم سماه((نو بهارا بجوكان))أي الربيع الجديد للصغار مجسدا بذلك حبه لشعبه ولغته القومية.
وعلى الرغم من تمكنه وإتقانه لهذه اللغات فقد آثر أن يكتب بلغة قومه ليؤكد بذلك مساهمة الاكراد في بناء الحضارة الإنسانية وإبرازا لشعبه ولطاقاته الفكرية،أو كما يقول هو((...ولكي لا يقول أحد أن أنواعا من الملل تملك الكتب ولا حساب للكرد وحدهم في هذا الميدان))،ولكي يشجع الأدباء الأكراد على الكتابة باللغة الكردية بدلا من اللغات الأخرى فتصبح آثارهم وينسى أصلهم الكردي.
عاش أحمد خاني في النصف الثاني من القرن السابع عشر الذي كان حافلا بالصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية للسيطرة على كردستان وثرواتها والذي شهد أيضا انهيار الإمارات الكردية الواحدة تلو الأخرى وآخرها إمارة تبليس،وإنصراف الأمراء والحكام الكرد إلى الإقتتال الداخلي،فكتب ملحمته الخالدة((مم وزين))يدعو فيها الأمراء الأكراد إلى الاتحاد والتعاون بدلا من الإقتتال والفرقة ويوضح لهم مرامي الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية إذ أن كل همهما هو إحتلال كردستان والتمتع بمواردها وبموقعها الإستراتيجي الهام والإستفادة من الشعب الكردي كرأس حربة ضد الإمبراطورية الأخرى أو كسد أمام هجوم الدولة المهاجمة.ولم يكتف خاني بدعوة الأمراء فقط للوحدة بل دعا الشعب أيضا لليقظة والتنبه والاعتماد على الذات , كان يثق بطاقات شعبه الخلاقة فلم يترك فرصة إلا وكان يدعو الأكراد للتعلم والإتحاد والعمل،حيث كان يربط بين الإزدهار السياسي والإزدهار الإقتصادي والعلمي.وبالإضافة إلى فكره القومي الثاقب كان خاني متحررا، وقف إلى جانب المرأة وأنصفها في شعره ودعاها إلى التعلم والتحرر كما كان معاديا للظلم ويكره اللهاث وراء جمع المال ورعاته. أما أهم أعماله بالإضافة إلى ملحمته ((مم وزين)) فهي : قاموس كردي – عربي للأطفال بعنوان((نو بهارا بجوكان))و((عقيدة الإيمان)) وهي قصيدة شعرية باللغة الكردية نظمها في 70 بيتا من الشعر وديوان شعر متنوع المواضيع .يعتبر ديوانه الشعري القصصي (ممو زين) من أشهر الروايات الشعرية الإنسانية التي تدور في إطار غرامي مأساوي والتي نقلها إلى العربية ( الكاتب والشاعر جان دوست من كوباني ) . تحكي ( مم و زين ) قصة حب بين عاشقين من بيئتين مختلفتين حيث كان ( مم ) من طبقة اجتماعية متدنية على عكس ( زين ) التي كانت أخت أمير بوطان وعندما حس الامير بوجود علاقة بينهما بعدما وشي له ( بكو ) بوجود تلك العلاقة غضب الامير وزج ( مم ) في السجن إلا أن موجه عارمة من السخط والتمرد قام بها الشعب في بلده مما اضطر الامير إلى الإفراج عن (مم ) ووافق على تزويجه من أخته ( زين ) إلا ان المنية وافت ( مم ) قبل إتمام زواجه منها فمات وبعد فترة قليلة جدا ماتت ( زين ) من شدة حزنها .توفي أحمد خاني في مدينة (بيازيد)سنة 1708م و دفن فيها. يقول :
أيها النسيم في رقة الروح
يا من تفتح له الأبواب جميعاً
هل لك أن تلتفت إلي قليلاً
وتحمل عني ما أعرضه عليك....؟
ويقول أيضاً :
(( لم الحياة ؟ ولم الروح ؟
ألكي يقولوا : ها هي تحيا , كانت ( خج سيامند )
فبالله , بالإله الطاهر , بالنور الإلهي أقسم :
أنت وحدك تملكني .
وساهواك ما حييت , وها أنا اتبعك )) .
حاجي قدري كويي ( 1816- 1892 )
ظهر شعر حاجي قدري كويى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من خلال مدرسة الشعر التنويري الديموقراطي حيث التغني بحركات التحرر الوطني و الدعوة للتزود بالعلم و المعارف و المدنية الحديثة و اشتعال الأفكار التقدمية مما سمح بتجاوز النظم الشعري الجامد و يقول في إحدي رباعياته:
لاتخسفوا هذه الأبيات،
حتى لو أنها كانت خاطئة، وناقصة
فهي لاخراجكم
من الوحل الذي أنتم فيه.
عبد الله كوران و حالة شعرية خاصة (1904- 1962)
في العام 1920 بدأ عبد الله كوران شاعر الروح الكردي نزف إبداعاته على أرضية شعرية متأصلة بتاريخ الشعر الكردي بروح تنويرية ديمقراطية ، و بدأت الواقعية الاشتراكية تبرز في اللغة الشعرية الكردية بشكل واضح .
ملا أحمد نامي
1906 – 1975
هو أحمد بن محمود ، ولد في قرية ((أربت)) التابعة لقضاء نصيبين سنة 1906 ، بدأ دراسته الدينية و هو في السابعة من عمره ، و تنقل في عدد من المدارس الدينية مثل مدرسة كرجوس ،دارا ، و بعض مدارس عامودا ، مدرسة كرصوار ، و أخيرا حط الرحال في مدرسة تل شعير ، و فيها أنهى دراسته الدينية ((نال رتبة الملا)) و أصبح فيما بعد إماما لهذه القرية .
و كان الملا أحمد الذي تلقب ب((نامي))من الرواد الذين اهتموا باللغة الكردية ، و دراستها و الكتابة بها في سوريا ، و قد نظم الشعر باللغة الكردية مبكرا ، و كانت أول قصيدة له في رثاء الشيخ عبد الرحمن كارسي سنة 1932 ، ثم تتالت نتاجاته ، و قد تأثر نامي بالشعر الكلاسيكي الكردي كشعر ((ملاي جزيري ، أحمدي خاني ، فقي تيران ...)) ألا أنه تأثر بشكل أكثر ، برفيق دربه في الدراسة و النضال الشاعر جكر خوين ((1984-1903 )) حيث درسا سوية ،و تخرجا معا من المدرسة الدينية ، و استمرت صداقتهما حتى أيامهما الأخيرة المشتركة ، ولقي من جكر خوين ا ستحسانا و تشجيعا على نتاجه . و قد كتب العديد من الأناشيد القومية ممجدا البطولة و مشحذا الهمم ، كما أبن عددا كبيرا من زملائه ، و نشر بعض نتاجاته في مجلتي ((هاوار ، روناهي )) الصادرتان حينذاك في دمشق من قبل الأمير جلادت بدرخان ، و كذلك في مجلة ((روزا نو )) التي كان يصدرها كاميران بدرخان بك من بيروت .
و إلى جانب نشاطه الأدبي و الثقافي اهتم نامي بالحياة السياسية و نتيجة لنضاله السياسي في سبيل بث الوعي القومي ، و المطالبة بحقوق الشعب الكردي في سوريا ، اعتقل أكثر من مرة ، و كان عضوا في جمعية ((خويبون1927 )) كماكان أحد أعضاء ((جمعية المثقفين )) في الحسكة التي تأسست سنة 1932 .
و قد ناضل نامي بقوة من أ جل تحرير المرأة ، و مساواتها مع الرجل ، و لا سيما في مجال التعليم ، و بذل جهودا كبيرة لدى مديرية المعارف في محافظة الحسكة حتى تمكن من الحصول على الموافقة بافتتاح مدرسة رسمية للبنات في قرية تل شعير عام 1950 ، في الوقت الذي لم يكن هناك سوى مدرسة واحدة للبنات في مدينة القامشلي . و كان يرعى في نفس الوقت مدرسة القرية للبنين ، و حمل على عاتقه مسوؤلية تعليم اللغة الكردية للشباب ، حتى أصبح كل شباب القرية يجيدون الكردية قراءة و كتابة بالأبجدية اللاتينية .
انتقل نامي في أواخر حياته إلى مدينة القامشلي و سكن في حي البشيرية حتى وافته المنية في
1975\12\11 ، و دفن في مقبرة قدور بك بعد أن أنهكه المرض لسنين طويلة . أما أهم أعماله المطبوعة فهي :
-1 ديوان شعر بعنوان (( daxwaz name )) .
-2 حريق سينما عامودا ، طبع في السويد .
و من آثاره غير المطبوعة :
-1 ذكرياتي (((( ciko li birm .
-2 قاموس كردي –عربي باسم ((kozar – حظيرة اللسان)) .
-3 قواعد اللغة الكردية .
قدري جان ( 1916- 1972)
قدم الشاعر قدري جان من كردستان العراق مع أسرته و هو طفل صغير و أقام في دمشق ، تميز شعره بالتجديد و الروح الوطنية و الإنسانية انطلاقا من إيمانه بالمصير المشترك للأكراد و العرب بما يتماشى مع فكره التقدمي ، أتقن العديد من اللغات و خصوصا الفرنسية و عكف على الإطلاع على الآداب الغربية الشعرية مما عمل على تطور لغته الشعرية و شكل القصيدة بشكل كبير بحيث يمكن اعتباره من مؤسسي الشعر الكردي الحديث المتحرر من الوزن و القافية ، اشترك قدري في الكتابة لمجلة (هاوار) الكردية و كان ينشر عبر صفحاتها اشعارا ً و أقاصيص و حكايات تراثية و مقالات و ترجمات عديدة ، إلا أنه نظرا لشحة إنتاجه الأدبي لم يتقبل القارئ الكردي هذا التطوير الذي أدخله على القصيدة الكردية على عكس ما حدث بعد ذلك مع الشاعر ( جيكر خوين ).
أوصمان صبري
أوصمان صبري الشخصية الكردية البارزة ناضل باستمائة منقطعة النظير في سبيل الدفاع عن القضية الكردية منذ أيام شبابه وحتى المراحل الاخيرة من شيخوخته،
ولد أوصمان صبري عام 1905 في قرية نارنجه في منطقة كخته بولاية أدي يمان في كردستان تركيا، أكمل دراسته الايتدائية في المدارس الرشدية وترك الدراسة. تزوج مبكرا وانجبت زوجته الاولى ثلاثة أبناء، وسرعان ما توفيت مع اثنين من اولادها في الطفولة، أما الثالث فقد قتل في السابعة والأربعين من عمره، وكان يدعى ولات، تزوج أوصمان ثانية وأنجب ثلاثة أبناء (هوشنك، هوشين، هفال) وبنتين (هنكور، هيفي) وتبنى ابنة أخيه(كوي).
ساهم في منظمة خوبيون التي تأسست في أواخر العشرينات من قبل البدرخانيين وممدوح سليم وقدري جميل باشا، ومصطفى بوزان شاهين بك، وغيرهم من الزعماء الكرد التقليديين,
لم يدخر أوصمان جهدا في خدمة اللغة الكردية والثقافة الكردية بوجه عام، تعليما ودراسة وتأليفا، وساهم في تنشئة أجيال كردية مثقفة في اللغة والادب الكرديين ممن عايشهم. أما كتاباته فهي: باهوز، دردي مه، جارلهنك، أبجديتان كرديتان الأولى29 حرفا مثل أبجدية بدرخان ، والأبجدية الثانية بزيادة أربع أحرف كانت تغفل في الأبجديات الكردية السابقة، مجموعة شعرية صدرت في اوروبا تحت عنوان ((أشعار ابو)) ومن الجدير بالذكر ان سبب تسمية اوصمان A P O يعود إلة نقمته على الزعامة الكردية التقليدية وكراهيته حتة لألقابها((أغا، بك ، باشا)) على الرغم من أن عائلته كانت تتزعم عشيرة ((مرديس)) حيث درجت زوجة المرحوم جلادت في فترة نشوء علاقة أصمان مع البدرخانيين على مخاطبته بكلمة A P O لمعرفتها بكراهيته لألقاب الزعامة الكردية المستعملة بين الكرد.
بعد هذه العطاءات السياسية والثقافية الكبيرة التي لم تسطع استيفاءها في دذد العجالة، وبعد 88 عاما من النضال الدؤوب في حياة زاخرة بالصلابة والمقاومة العنيدة في سبيل الدفاع عن القضية الكردية العادلة ـ رحل أوصمان صبري وترك إرثا نضاليا وثقافيا خالدا يكفي لتخليده كعلم من اعلام النصال الكردي التحرري. وهنا بعضا من توجيهاته:
* الامة التي تحب نفسها وتعي ذاتها هي التي تحب لغتها.
، اهتم بقراءة التراث الكردي و أشعار أمير شعراء الأكراد ( أحمد خاني ) حتى انه ذكره في إحدى قصائده قائلا ً :
هذان النهران متحدرين من الشمال، كبلدين
أحدهما يذهب حتى (بيرجك)، والآخر يمر خلال ديار ( زين)
كان (ملاي جزيري) يستحوذ منهما إلهامه،
و(أحمد خاني) ارتوى من مياه النهر
وعلى ضفافه، كتب آلام ( مم) المدنف
جيكر خوين و مدرسة شعرية خالدة :
يعتبر جيكر خوين (القلب الدامي ) أشهر شعراء الأكراد المعاصرين الذين لمعت أسماؤهم في الفترة ما بين خمسينيات و سبعينيات القرن الماضي ، و حتى الآن يعتبر مدرسة خاصة قلدها الكثيرون من شعراء الأكراد و لازالوا حتى الآن يسيروا على نهجه ، كتب الشعر الكلاسيكي و شعر التفعيلة و كذلك قصيدة النثر ، برع جيكر في تجسيد الحياة الكردية و الآلام و المحن التي مر بها شعبه الكردي ، كان ملتزما ً بقضايا أمته و مصيرها مع إصراره بالكتابة باللغة الكردية بلهجته الكرمانجية على الرغم من الصعوبات التي تعرض لها و كان يعلق على ذلك بقوله : " إذا كتبت بلغة الآخرين فإن لغتي ستضمحل و تموت أما إذا كتبت بلغتي فإن الآخرين سيحاولون قراءة و كتابة لغتي".
أسس جيكر خوين جمعية " خويبون " الأدبية في العام 1928 و التي اهتمت بنشر الوعي القومي و الثقافة و الأدب الكردي في الجزيرة السورية ، ضمت العديد من المثقفين و الأدباء الأكراد على رأسهم كاميران بدرخان الشاعر السياسي و حسن حاجو ، كما شارك في تأسيس "نادي عمودا الثقافي" في العام 1932 و من خلاله أظهر اهتمامه بتعليم اللغة الكردية للشباب و برز منهم عدد كبير من المثقفين لعل أشهرهم (نايف حسو الذي اشتهر بإسم تيريز ) .
كان ترحال جيكر المستمر بحثا ً عن العلم و المعرفة سعيا ً للتزود بكل ما يرفع من إمكاناته التي ستؤهله لخدمة كردستان و أبناءها ، وضع كتاب "قواعد اللغة الكردي " و كذلك ألف قاموسا ً في الكردية من جزأين ، قام جيكر خوين بنظم المخطوطة التاريخية ( شرفنامة المنظومة) و التي كانت مكتوبة بخط( الملا عبد الهادي ديركاجياي مازي) عام 1942 و التي تتألف من (742) مقطعا ً شعريا ً و التي تعتبر وثيقة تاريخية تحكي احوال زعماء الأكراد و مكانتهم و التي ألفها ( شرفخان البدليسي ) عام 1005 هجرية باللغة الفارسية حول أنساب العشائر و الأمراء الأكراد .
خلف جيكر خوين ثمانية دواوين تحكى قصص الكفاح الكردية و التقلبات السياسية التي عاشها الأكراد خلال فترة حياة جيكر خوين و الفخر بانتمائه الكردي و خطبة السياسية و التي كانت تحمل العديد من الدلالات السياسية و الإنسانية يفسر ذلك سر الكلمات الخشنة التي احتشد بها شعره على حساب استعمال الألفاظ الرقيقة :
من أنا
كردي أنا
في الأرض و السماء
و في قصيدة أخرى يقول :
أين حدائقي و بساتيني
أين رياضي و جناني
لقد احتلها الأعداء
آخ ..
أين كردستاني ... أين ؟!
و كان يشير إلى محاربة الآغوات و مرتدي عباءة الدين من غير الآهلين لذلك و فيهم قال جيكر خوين :
اضربوا أيها الأخوة
اقتلوا
الآغوات … و الشيوخ
أنهم أول الأعداء
و في قصيدة أخرى يقول :
يا شيخي
من الآن و صاعدا لن أُقبل يديك
تلك السرايا و المدارس جعلتها أطلالا ً و خرابا ً
أنظر إلى شيوخ أوروبا
طيروا الحديد إلى السماء
لكنك جعلتنا متخلفين بالذكر و الأشياء الخرافية.
كما عمد إلى الإشارة إلى انتمائه للحزب الشيوعي و تأييده للاتحاد السوفيتي و الماركسية حيث قال في إحدى قصائده:
لنعلن و بصراحة
أننا ماركسيون...
و لن نكون غير ذلك..!!
تعاطف جيكر خوين مع كل القضايا الإنسانية فكتب عن فيتنام و كذلك عن فلسطين ، حتى أنه كتب عن المطرب الأسود (بول روبسون ) قائلا ً :
أيها الصديق روبسون
المغني العالمي
يا داعية السلام
المعلم و الإنسان
في البحار و الجبال جسور
و قوى في مواجهة دالاس
لونك الأسود أمام ناظري
صوتك الشجي في مسامعي.
ابتكر جيكر خوين لغة شعرية خاصة مباشرة و تقريرية حيث اهتم بالوصف الحسي و الاستعارات و التشابيه الحسية ، و لعل اللافت للنظر الخلط الذي أحدثه جيكر بين الإشارة إلى الحديث عن الوطن و الحبيبة فنراه يقول :
شامخة قامتك
السماء ترصع تاجك
و بجمري الأبيض طوقت قمم "زوزان" و " سيبان "
الله ... ما أجملها حبيبتي
فهي رقيقة شفافة و أبية
ينحدر من قامتها " الفرات" و " دجلة" و " الخابور"
استقي جيكر خوين لغته من خلال ثقافاته المتنوعة ، حيث درس الفلكلور الكردي و قلد القدامى من شعراء الأكراد أمثال الملا أحمد خاني و أحمد الجزيري ، و لتفادي ضياع قصائده كان يتعمد تذييل أخر بيت من كل قصيدة بكتابة اسمه و قلده في ذلك العديد من شعراء الأكراد ،على الرغم من أن بدايات جيكر خوين كانت دينية حيث اهتم بتعلم العلوم الدينية على يد الملالي إلا أنه انخرط في العمل السياسي و اهتم بعد ذلك بدراسة العلوم الدنيويه و تاريخ الثورات حول العالم عمد إلى التجديد في القصيدة الكردية ، اصدر مع رفاقه في أول تشكيل سياسي كردي في سوريا ( الحزب الشيوعي السوري) مجلة (كلستان) - أرض الزهور- عام 1968و التي اهتمت بالأدب و الشعر و الترجمة ،إلا أن هذا التنظيم السياسي انحل و انشق رفاقه المشاركين في المجلة و اعتبرت الكتابة بالكردية جريمة إلا أنه ظل يناضل و يكتب بلغته حتى وافته المنية في العام 1948 في مدينة القامشلي السورية .
شيركو بيكه سي شاعر الأنفال:
ولد شيركو بيكه سي في مدينة السالمية العراقية عام 1940 صدرت له ثمانية عشر مجموعة شعرية كانت أولاها في العام 1968 ، كتب مسرحيتين شعريتين ، كما اهتم بالترجمة فترجم رواية ( العجوز و البحر ) لتولستوي نقلا عن اللغة العربية إلى الكردية ، أسس حركة ( روانكة ) الشعرية في العام 1970 و التي ضمت عدد كبير من الشعراء و الروائيين الأكراد،يعتبر رائد الشعر الكردي الحداثي و أشهر من برع في قصيدة النثر الكردية ، تنوع إنتاجه ما بين النصوص القصيرة جدا ً و الطويلة و القصة الشعرية و المسرحية الشعرية و كذلك الرواية الشعرية ، اتسم أسلوبه بالليونة مع اهتمامه بالتراث الكردي الشعري و الأسطوري ، تأثرت كتاباته بالسياسة و التاريخ و الحكايات و الملاحم الغنائية حيث تمكن من ابتكار نسقا ً شعريا ً خاصا ً جمع ما بين الحكاية و التاريخ و الحوار الدرامي و الذاكرة الشعبية و الغنائية ، لغته الشعرية غارقة في التساؤلات و الانطلاق و التحليق في دهاليز الروح كما يطغي الحزن و بعض من القسوة على كلماته و لغته الشعرية حيث يعتبر شعره تجسيدا ً لما تعرض له الأكراد في العراق من تنكيل و قتل جماعي .
كتب شيركو بيكه سي واصفا ً الشاعر بلغته الشعرية المميزة قائلا ً :
الشاعر يشبه حصاناً أسود وحيد
عرفه خصلة نار
وصهيل مبلل بالأنكسار
يجري في دوران دائم
شيركو بيكه سي استطاع أن يخلق جوا ً شعريا ً كرديا ً خاصا ً قادم من حلمه بوحدة الأرض و الوطن ففي قصيدة-حلبجة تذهب إلى بغداد يقول :
ستذهب حلبجة إلى بغداد قريباً
عن طريق غزلان سهول "شيروانه"
حاملة معها سلة من الغيوم البيضاء
وخمسة آلاف فراشة
تنهض دجلة بوجل…
تنهض بكامل هيبتها… وتحتضنها
ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها
بعدها ……
تقترب يمامتان من النجف
يغمر حنجرتيهما الهديل
ليحطا على كتفيها
لغة شيركو الشعرية مميزة بفراشاتها المنطلقة حول تخوم وطن روحه و من تنور الخبز الحمص في حلمه الطفولي النزق فنرى في أبياته ألفاظ غاية في البراءة و الرقة كما نرى ألفاظ حادة كحد السكين القاتل فنسمعه ينشد شعره كرنة العندليب :
نريد أن نوزع حبك كالخبز
نريد أن نحمل حبك كالطفل على الكتف
نريد أن نجعل حبك باقات كباقات الورد
نريد أن تقرأ حبك كالشعر
هاهم يحشون آذانهم بأقطان الظلام يبصقون في جبين الخبز والأطفال
و يفقأون عيون الزهور
و في موضع أخر يقول :
يا وطن الرماد والزهور
أنت أهمنا جميعاً وجميعنا أنت
أنت عضلات تلك السواعد التي تضم إليها
نداءات المصائر
أنت إلهام فرهاد
حين يبغي اجتياز بوادي التأريخ
أمام حد القوس وتحت وابل التيزاب
فوق أشواك الهلاك
و حين يهدر شعره كموج البحر :
تذكر وصفح أوراق الأمواج في كتاب بحر رأسك
فهذا الرحيل رحيل الجبال
ووجه سماء طائر
نهر
ينقل جميع عناوينكم في دهاليز نظراته
يأخذها ..يأخذها ..
ويرميها في مهب الإعصار"
و حين يداهم الشتاء ( السالمية ) بثلوجه البيضاء :
الثلوج تتساقط
حباتها فراشات ذابلة
فوق لحي وشوارب كثة للشباب
وظل الزعيم يتتبع خطى وأثار الحوافر
الثعلب هز رأسه ..وأهتز الذيل خائفاً
وهنا
أنشق صدر الجليد
فتراجع الثعلب وسارت القافلة
دنا الظل ..دوي ..اثنان ..ثلاثة
وزلزل يعزف ضجيجاً
انهيار ثلوج من بعيد
حتى أن السماء
دست غيوم القطن في أذنها
حرر شيركو بيكه سي أبياته من الوزن و القافية في نصه الشعري الروائي الطويل ( مضيق الفراشات ) و الذي اتبع فيه أسلوباً خاصاً يمزج بين الشعر و الرواية حيث يحكي النص عن ثورة الإنسان الكردي على مر العصور و يعد تأريخا ً لتلك الثورات التي احتلت ذاكرته و ذاكرة كل كردي :
لا تقرأني كثيراً
لأنك ستصاب بالعمى من كثرة الدخان في تأريخي
الرماد أصله كرد
لماذا ؟
الله هو الوحيد الذي في أستطاعته أن يجيب
في ربيع العام 1988 حدثت الواقعة الأكثر إيلاما ً في تاريخ أكراد العراق واقعة الأنفال ، و التي عبر عنها شيركو بيكه سي في قصيدته الطويلة ( مقبرة القناديل ) و التي أطلق عليها أيضا ( الأنفال) بلغة قاسية تخدش سطور شيركو الرقيقة و روح القارئ الرومانسي ، تحكي (مقبرة القناديل ) عن المقابر الجماعية و جنازات الدفن و العودة من الموت و الخروج من السجن و الاعتقال و أعمار الموتى التي تطير كالفراشات في سماء الحزن و الشجن و حكايات الناجين من الموت ، استعمل شيركو بيكه سي اللغات المحكية على لسان النساء المسنات اللائى شاهدن المجازر و مات أقاربهن كما كان سائدا ً في الأدب الشفهي الكردي القديم مع دمجها ببعض لحظات الفرح التي سبقت تلك المجازر :
ليلة ، في البصرة
قرب تمثال "السياب"
في احتفال التاج والنجمات ورقص البيريهات وسكر الأسلحة
أثثوا صالة من مرج من صبايا الجبال
الصالة مضيئة
والصبايا معتمات
تدخل النجمات لاصطفاء الصبايا الحزينات
على طالة ناعسة
سكينة وسلة من الأجاص
يظل شيركو بيكه سي السامي فوق حزنه المتسامي بلغته .
سليم بركات حالة أدبية خاصة :
لم تشهد ساحة أدبية حالة خاصة مثل سليم بركات ذلك المسكون بالشجن المفعم بالشعر و المطارد بالرواية ، حين يأتي الحديث عن سليم بركات يجد المرء نفسه في حالة حيرة شديدة من أمر هذه الروح التي خطفت الألباب بسحر شعرها و بغزارة رواياتها ، لا يمكن إغفال سليم بركات كشاعر كما لا يمكن إغفاله كروائي متميز سرقته الرواية من أجواء الشعر الكردي الحديث الذي يعد من رواده في سوريا بلغته الخاصة المميزة الحية ، حيث دائما ما يتم الإشارة إلى أن الأصوات الشعرية الحديثة جميعها لم تخرج من عباءة ( جيكر خوين ) أو( سليم بركات).
اهتم سليم بالتأريخ الذاتي و أدب السيرة حيث كتب سيرة الصبا في رواية (هاته عاليا ً هات النفير على آخره ) التي صدرت في العام 1982 و كذلك كتب في سيرة الطفولة في روايته ( الجندب الحديدي ) عام 1980 ، ببنما يعتبر سليم أن أولى رواياته هي (فقهاء الظلام ) و التي صدرت في العام 1985،يبلغ إنتاج سليم بركات عشرة أعمال نثرية و عشرة دوايين شعرية أولها كان المجموعة الشعرية ( كل داخل سيهتف لأجلى و كل خارج أيضاَ ) و التي أصدرها في العام 1973 و أخرها المجموعة الشعرية ( المثاقيل) و التي صدرت عام 2000.
اهتم سليم بركات بالشعر القصصي ذو النكهة الحداثية ، يرصع لغته بالسحر و كلماته باللاممكن فحين نقرأ سليم نشعر بأجواء خاصة تبتعد بنا عن أرض الواقع لتحلق في سماء الشعر و الأمنيات و الخيال فنراه يقول في قصيدة (استطراد في سياقٍ مُخْتَزَلٌ):
إنها البراهينُ الحمّى،
وأنتَ تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين،
وتُوْقِعُ بالكلماتِ لتغفوَ البراهينُ على شِجارها.
لا دِيَكَةَ هنا،
لكنها أَعرافُ النارِ المتمايلةُ كأعرافِ الدِّيكة،
والوجودُ المارقُ يروِّعُ السياقَ المكنونَ للظُّهُوْراتْ.
لا بلاءَ هنا إلاَّ من وَرْدٍ،
لا مِزْراقَ طائشاً إلاَّ مِزْراق الكونْ؛
والبرقُ زِرايةُ الليلِ بالمكان، ثمَّ، والمياهُ هُزْوٌ،
فمالَكَ تتلقَّفُ المشيئاتِ بشعاعٍ منكوبٍ،
وتُغْدِقُ على الألمِ إيمانَ المساء؟
سليم بركات شاعر المحال و روائي النضال و البارود يتجلى دوما في دواوينه و رواياته بهموم الإنسان العربي و الكردي على نغمة شجنية واحدة ، و حاول الكثيرون من الشعراء الأكراد المعاصرين تقليد سليم بركات و السير على نهجه في كتابة القصيدة إلا أنه لم يتمكن أي منهم من رسم خط شعري خاص به سواء ممن كتبوا الشعر المقفي أمثال جميل داري و عبد الرحمن ألوجي أو الغالبية التي تكتب شعر التفعيلة و القصيدة النثرية ، إلا أنه هناك مجموعة من الأسماء قد برزت على الساحة الشعرية الكردية الحديثة و يعتبر أشهرها الشاعر (محمد عفيف الحسيني ) الذي يكتب القصيدة الحديثة نقرأ له في قصيدة (شجرة الميلاد):
ثم تنتهي الحكاية،
كما سينتهي هذا العام،
وتنطفىء أشجار الميلاد،
ويعود الساهرون إلى منازلهم الصفراء؛
وتغيب الحكاية، والسيدة الصغيرة،
لاريح تذكرها بالرجل،
وهو يقدم لها حنيناً ويأساً، ومساء الخير.
ثم ينطفىء كل شيء،
كأنْ لم يحدث شيءٌ
سوى مرآة مشروخة، تحمل صورتين جميلتين،
ووردة ذابلة،
وشجرة الميلاد المطفأة.
تم بعون الله